أما أصول المعتزلة فهي خمسة: الأصل الأول: التوحيد.
هذا أصل أصيل يتكئ عليه أهل الاعتزال، والذي يسمع أن كلمة التوحيد أصل من أصول المعتزلة يقول: لماذا تنكرون على المعتزلة؟ أنتم تدعون إلى التوحيد وهم يدعون إلى التوحيد؟ بل حتى صار التوحيد شعاراً من شعارهم، لكن التوحيد عند المعتزلة إنما هو إبطال الصفات؛ بزعمهم أنهم ينزهون الله عز وجل عن أن يكون شبيهاً بمخلوقاته، فيقولون: الله تعالى ليس له يد، ولا ساق ولا وجه، وليس له نفس، ولا يغضب ولا يسخط ولا يفرح ولا يضحك، قالوا: لأن هذا كله لا يصدر إلا من المخلوق، والخالق منزه عن ذلك، فنحن نوحده في ذاته أن يكون شبيهاً بمخلوقاته، هذا هو التوحيد عندهم، والتوحيد عندهم فيه كلام كثير.
لكن على أية حال: إذا علمت أن هذا هو التوحيد عند المعتزلة فاعلم أن هذا عند أهل السنة إنما هو نفي وتعطيل، وقد سمى المعتزلة هذا النفي وهذا التعطيل لصفات الله تعالى توحيداً، ولا مشاحة في الاصطلاح، فكل إنسان يصطلح لنفسه مصطلحاً، ويفعل لنفسه ما يشاء، لكن أهل السنة والجماعة إنما ينظرون إلى معنى هذه المصطلحات، يقولون: نحن نتفق معكم في نفي المماثلة ونفي المشابهة، لكننا نثبت الأسماء والصفات وأنتم تنفونها، وتظنون أن التوحيد لا يكون إلا بالتعطيل، ونحن لا نقول بالتعطيل، وإنما نقول بالتوحيد الذي هو إثبات ما أثبته الله تعالى لنفسه وما أثبته له رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم على المعنى اللائق بالله عز وجل، دون استلزام مشابهته بالمخلوقات؛ لأن المخلوقات فيما بينها مختلفة في هذه الأسماء والصفات، فلو قلنا: للحمامة جناح، ولليمامة جناح، وللعصفور جناح، ولكل طائر جناح، ولجبريل عليه السلام جناح، فهذه كلها أشياء مخلوقة تطير، وتطير بأجنحتها، لكن هل جناح العصفور كجناح جبريل؟
صلى الله عليه وسلم لا.
إذاً: العصفور يتفق مع جبريل في مجرد الاسم، أما الكنه والحقيقة فشتان وهيهات، وكذلك الله تعالى له يدان وله عينان وله نفس، ويضحك ويغضب ويسخط وغير ذلك من صفاته الخبرية التي أخبر بها، وصفاته الذاتية التي أخبر بها سبحانه وتعالى، وأخبر بها رسوله، وكذلك شتان بين ضحك المولى عز وجل وضحك المخلوقات، حتى الحيوانات فيما بينها تضحك وتغضب وتبكي وتحزن، وليس حزنها كحزن بعضها البعض، ولله المثل الأعلى سبحانه وتعالى.
فالمعتزلة فضلاً عن أصولهم الخمسة تجهموا، أي: مالوا إلى مذهب الجهمية، فصاروا يضبطون أصولهم الخمسة على مذهب الجهمية ويخالفون الجهمية في بعض المسائل، لكن المعتزلة في نهاية أمرها أشربت مذهب الجهمية، وكثير من الناس يقول: هذا معتزلي جهمي، أو هذا جهمي معتزلي، وفي الحقيقة أن كل معتزلي جهمي وليس كل جهمي معتزلياً، وهنا نقول: بين الجهمية والاعتزال عموم وخصوص، فكل معتزلي قد أشرب منهج التجهم، وليس كل جهمي يقبل مذهب الاعتزال.
قال: الدرجة الثانية: هم تجهم الاعتزال، أو المعتزلة الجهمية.
قال: وهم الذين يقرون بأسماء الله الحسنى -هناك النفاة لا يقرون بهذا، لكن هؤلاء يقرون بأسماء الله الحسنى في الجملة، وكلمة (في الجملة) لها معنى، فقد قلنا بالأمس: إن مذهب أهل السنة والجماعة في إثبات الأسماء الصفات على سبيل التفصيل والإجمال من باب أولى، فأهل السنة والجماعة إذا أرادوا إثبات الأسماء والصفات أثبتوها تفصيلاً، والذي يثبت تفصيلاً من باب أولى أنه يثبت إجمالاً، وإذا أرادوا أن ينفوا عن الله تعالى صفة النقص نفوها إجمالاً.
إذاً: نفي النقص عن الله عز وجل عند أهل السنة والجماعة يكون إجمالاً، ودليل ذلك قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11].
أما إثبات الأسماء والصفات لله عز وجل فيكون على سبيل التفصيل؛ ولذلك بينها الله تعالى إجمالاً، قال: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:180] ثم أثبت الله تبارك وتعالى في كتابه وأثبت رسوله في سنته عليه الصلاة والسلام: (إن لله تسعة وتسعين اسماً مائة إلا واحداً من أحصاها دخل الجنة)، فهذا إثبات لأسماء الله تعالى وصفاته على سبيل التفصيل، خلافاً للمعتزلة الذين يثبتون الكمال إجمالاً، وينفون النقص تفصيلاً، فيقولون: ليس الله تعالى بذات ولا جسم، ولا طويل ولا قصير، ولا أبيض ولا أسود، وغير ذلك.
مع أن هذا الكلام لا يصلح أن يكون منهجاً للمخلوقين، فلو أردت أن تمدح واحداً أو ملكاً أو شريفاً أو وجيهاً، فلا يصح منك أن تقول له: لست حماراً ولا كلباً ولا خنزيراً ولا غبياً ولا كيت وكيت وإنما تأتي بإثبات المدح مباشرة، فإذا كان هذا لا يصح في حق المخلوقين فمن باب أولى أنه منكر في حق المولى عز وجل.
فهؤلاء المعتزلة الجهمية يقرون بأسماء الله الحسنى إجمالاً، لكن ينفون عنه صفاته، وهم أيضاً لا يقرون بأسماء الله كلها على الحقيقة، بل يجعلون كثيراً منها على المجاز، وهؤلاء هم الجهمية المشهورون، وهم الذين اعتنى العلماء بالرد عليهم.
ولذلك معظم ردود ابن بطة عليه رحمة الله في هذا الجزء الخاص