وكتب الإمام أحمد إلى عبيد الله بن يحيى بن خاقان قال له: لست بصاحب كلام.
أي: إذا كنت أرسلت إلي بشيء من هذا تريد أن أناظرك فيه وأجادلك فاعلم أني لست بصاحب كلام، ولا أحسنه ولا أجيده.
هذا الباب للإمام أحمد بن حنبل، لما كان يسأل في شيء لم يكن عنده فيه نص عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قال: أنا لا أفهم هذا ولا أعرفه، فاسأل أحداً غيري عن هذا، وليس معنى (لا علم لـ أحمد به): أنه يعجز عن الرد، ولكن أحمد كان ينزه لسانه وسمعه أن يسمع شيئاً من تلك الفلسفات.
أضرب لكم مثالاً: الحارث المحاسبي رجل له كلام متين جداً في الزهد وفي محاسبة النفس وغيرها، وله كتاب اسمه: التوهم، لو قرأه أحد لأيقن أنه هالك، حتى وإن كان أعبد الناس، وكان في مجلسه الآلاف؛ فقالوا لـ أحمد بن حنبل: ما تقول في الحارث؟ قال: لا أعرفه.
أي: لا أعرف عنه شيئاً، وأصم أذني عن سماع كلامه، فقالوا: يا إمام! لابد لك من أن تسمع كلامه، قال: إذا دعوتموه فآذنتموني سمعت كلامه من خلف الستار أو الجدار، فدعوه في الليل في بيت أحدهم، فلما جاء أحمد وسمع الحارث، سمع أصحاب الحارث لـ أحمد نشيجاً وبكاءً حتى أشفقوا عليه، فلما قدموا على أحمد وجدوا أنه قد بل الثرى بدموعه تأثراً من كلام الحارث، فلما قالوا له: يا أحمد! ما تقول في الحارث؟ قال: لا تسمعوا منه حرفاً واحداً.
إن أحمد رضي الله عنه فهم كلام الحارث ومن أين جاء به، وما مراده بهذا الكلام فتأثر منه، وله أن يتأثر، بل لـ أحمد أن يطلع على كتب أهل الكتاب، وكتب الفلاسفة واليونانيين والفرس والترك والروم، لكن ليس لآحاد الأمة ذلك.
إن ابن تيمية عليه رحمة الله درس كتب الفلاسفة ورد عليهم بمنطقهم، لكن لا يجوز لآحاد الأمة أن يدرس ما درسه ابن تيمية، فإن كثيراً من الطلاب دخلوا ودرسوا علم الفلسفة والمنطق فكانوا نقمة وحرباً على دينهم؛ لأنهم تعلموا التجرؤ على كتاب الله وعلى سنة الرسول عليه الصلاة والسلام باعتبارهما كتباً من الكتب قابلة للنقل، وقابلة للتجريح وللأخذ والرد.
هكذا تعلموا؛ لأن هذا أصل في الفلسفة.
فاعتبار كتاب الله تعالى من آحاد الكتب وبأنه لا فرق بين كتاب الله وبين غيره من الكتب اعتقاد معروف عند الفلاسفة.
قال الإمام أحمد: لست بصاحب كلام، ولا أرى الكلام في شيء من هذا إلا ما كان في كتاب الله، فإن كنت تريد أن تناقشني فائتني بقول الله، أو بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأما غير ذلك فإن الكلام فيه غير محمود أبداً.
وللأسف الشديد من المفكرين الإسلاميين اليوم من يريد أن يناقش الغربيين بمنهج الغربيين؛ ويقول: لأنهم كفار، ولا يريدون أن يسمعوا القرآن والسنة، ويرفضون الاحتجاج به، سبحان الله! هم يرفضون الاحتجاج بالقرآن والسنة، وأنت تقبل الاحتجاج بهذا الكلام التافه السخيف.
ذات مرة تأخر خطيب عن الخطبة، فاضطر أحد الحاضرين أن يصعد، وليس أهلاً لذلك، لكنه قال كلمة عجيبة جداً، قال: لابد أن تطبقوا شرع ربنا، وكل واحد يلتزم بشرع ربنا، لأنه لا يمكن أبداً أن يستوي شرع ربنا مع شرع أبيه وأمه.
هكذا قال! سبحان الله! قال كلمة أجمل فيها، وتذكرت أن أحد أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام جاء إليه وقال: (يا رسول الله! إني أقول: اللهم أدخلني الجنة وأعذني من النار) ولم يأت بدليل على قوله.
قال: (أما دنددنتك ودندنة معاذ فإني لا أحسنها، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: حولها ندندن) يعني: نحن ندعو الله عز وجل، ونصل في نهاية الأمر إلى ما وصلت إليه، ونتمنى ما تتمناه أنت.
فهذا الرجل أجمل ما قاله الدعاة منذ عشرات ومئات السنين في كلام مختصر جداً.
قال: لست بصاحب الكلام، ولا أرى الكلام في شيء من هذا إلا ما كان في كتاب الله أو في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأما غير ذلك فإن الكلام فيه غير محمود.
إذا كان الله تعالى غنياً عن إيمان المؤمنين وإسلام المسلمين، فمن باب أولى أن الله تعالى غني عن العالمين، والله هو الغني الحميد، الغني عن جميع الخلق مؤمنهم وكافرهم، فإن طاعة الطائعين لا تنفعه، ولا معصية العاصين تضره سبحانه وتعالى؛ لأنه الغني بذاته عن عباده وعن خلقه، فهؤلاء من أئمة الأمة ينهون عن الخوض في علم الكلام والتعدي في الأسئلة، فأهل البدع يقولون: نحن ننزه الله تعالى عما تنزهونه، يقولون: نحن ننزه الله أن يكون له يد، وأن يكون له رجل وساق وعين ووجه ونفس وغير ذلك، وننزهه أن يضحك ويغضب ويسخط ويرضى ويأتي ويجيء؛ لأن الله سبحانه وتعالى ليس بعقل ولا جسم، ولا لون، ولا له عين، ولا أذن ولا سمع يتكلم به، ولا لسان وليس