قال: [كتبت تسأل عن الإقرار بالقدر -أي: أن عمر بن عبد العزيز قال لعامله: لقد كتبت إلي تسألني عن الإقرار بالقدر- فعلى الخبير بإذن الله وقعت -أي: أنك لا تجد أكفأ مني تسأله عن هذا، فأنا بإجابة هذا السؤال خبير- ما أعلم أحدث الناس من محدثة، ولا ابتدعوا من بدعة هي أبين أمراً ولا أثبت أثراً من الإقرار بالقدر -ليس هناك أعظم في الإسلام من بدعة القدرية-، لقد كان ذكره -أي: أمر القدر- في الجاهلية الجهلاء يتكلمون به في كلامهم وفي شعرهم، يعزون به أنفسهم على ما فاتهم -أي: من الخير-، ثم لم يزده الإسلام بعد إلا شدة، ولقد ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم في غير حديث ولا حديثين قد سمعه منه المسلمون، فتكلموا به في حياته وبعد وفاته يقيناً وتسليماً لربهم، وتضعيفاً لأنفسهم أن يكون شيء لم يحط به علمه، ولم يحصه كتابه، ولم يمض فيه قدره، وأنه مع ذلك لفي محكم كتابه، فمنه اقتبسوه، ومنه تعلموه، ولئن قلتم: لم أنزل الله عز وجل آية كذا؟ ولم قال الله عز وجل كذا؟ لقد قرءوا منه ما قرأتم].
أي: إذا سألتم: ما معنى هذه الآية؛ على سبيل الاعتراض، أو على سبيل رد مسائل القدر، فتقولون: لم أنزل الله آية كذا؟ ولم قال الله كذا؟ ف
صلى الله عليه وسلم أن السلف رضي الله عنهم قد قرءوا هذه الآيات التي تعتمدون أنتم عليها، وتحتجون أنتم بها، فهل كان موقفهم من هذه الآيات مثل موقفكم أنتم؟!
صلى الله عليه وسلم لا.
إذاً: فيسعكم ما وسع السلف، ولا يسعكم ما لم يسع السلف، فالسلف قرءوا هذه الآيات وهذه الأحاديث، فآمنوا بها وأمروها كما جاءت، ولم يخوضوا فيها بتأويل، ولم يصرفوها عن ظاهرها، بل آمنوا بها.
قال: [لقد قرءوا منه ما قرأتم، وعلموا من تأويله ما جهلتم، وقالوا بعد ذلك كله بكتاب وقدر].
أي: أن كل ذلك مذكور في الكتاب الأول في اللوح المحفوظ، والله تعالى قد علمه وقدره.
يعني: بعد أن قرءوا هذه الآيات، وعلموا تأويل وتفسير هذه الآيات؛ سلموا بعد ذلك لله تعالى في باب القدر، وقالوا: ما أصابنا إلا ما كتبه الله لنا من خير أو شر.
قال: [وما قدر يكن، وما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، ولا نملك لأنفسنا نفعاً ولا ضراً].
أي: أن الذي يملك النفع والضر هو الله عز وجل؛ ولذلك سمى نفسه النافع الضار سبحانه وتعالى.
قال: [ثم رغبوا بعد ذلك ورهبوا].
أي: بعد علمهم بهذا كله عبدوا الله تعالى بجناحين: جناح الخوف وجناح الرجاء، ولا حيلة للعبد أبداً في عبادته لله عز وجل إلا بهذين الجناحين، فمن غلب عليه الخوف أيس من رحمة الله، ومن غلب عليه الرجاء فرط في جنب الله.