قال: [الباب الأول: باب ما روي في الإيمان بالقدر، والتصديق به عن جماعة من التابعين.
اعلموا رحمكم الله! أن القدرية أنكروا قضاء الله وقدره، وجحدوا علمه ومشيئته، وليس لهم فيما ابتدعوه ولا في عظيم ما اقترفوه كتاب يؤمونه] يعني: ليس معهم دليل من الكتاب على إثبات مذهبهم.
ثم قال: [ولا نبي يتبعونه، ولا عالم يقتدون به، وإنما يأتون فيما يفترون بأقوال من أهوائهم مخترعة، وفي أنفسهم مبتدعة، فحجتهم داحضة -أي: ذاهبة لا قيمة لها- وعليهم غضب، ولهم عذاب شديد، يشبهون الله بخلقه، ويضربون لله الأمثال، ويقيسون أحكامه بأحكامهم -أي: أحكام الله تعالى بأحكام العباد-، ومشيئته بمشيئتهم، وربما قيل لبعضهم: من إمامك فيما تنتحله من هذا المذهب الرجس النجس؟ فيدعي أن إمامه في ذلك هو الحسن بن أبي الحسن البصري رحمه الله، فيضيف إلى قبيح كفره وزندقته أن يرمي إماماً من أئمة المسلمين، وسيداً من ساداتهم وعالماً من علمائهم بالكفر، ويفتري عليه البهتان، ويرميه بالإثم والعدوان؛ ليحسن بذلك بدعته عند من قد خصمه وأخزاه.
وأنا أذكر من كلام الحسن رحمه الله في القدر، ورده على القدرية ما يسخن الله به عيونهم، ويظهر للسامعين قبيح كذبهم إن شاء الله تعالى وبه التوفيق].
أي: أن أهل البدع دائماً يتشبثون بقول لرجل من أهل السنة، وهذه سمة وعلامة تميز أهل البدع دائماً: أنهم لا يركنون في الغالب في مواجهة الخصم إلى علمائهم؛ لأنهم يعتقدون أننا لا نعتبر علماءهم، فمثلاً: لو أراد شيعي أن يحاججنا في مسألة من مسائل النزاع لا يحتج بكلام أئمته، وإنما يحتج بكلام لإمام معتبر عندنا، وهذا المبتدع إما أن يكون فهم الكلام فهماً غير مراد، وإما أن يكون هذا النص عن إمامنا غير ثابت، وإما أشياء أخرى.
ولذلك إذا كان هناك نص في البخاري يدعو إلى محبة أهل البيت، فالشيعة يتشبثون جداً بهذا النص، ويلزموننا أن نكون وإياهم سواء في محبة أهل البيت، بدليل ما قد ورد في البخاري عندنا من وجوب محبة أهل البيت، نعم، نحن نحب أهل البيت، ونتقرب إلى الله بحبهم؛ فهم عترة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أمرنا بحبهم واتباعهم ما داموا على الكتاب والسنة، فالشيعة يحتجون بهذا.
ودائماً نقول لهم: لم تحتجون بحديث في البخاري؟ يقولون: لأنه كتاب معتمد عندكم، إذاً: إذا كان معتمداً عندنا فنحن الذين نحتج به لا أنتم، وإذا جاز لكم أن تحتجوا بما عندنا من أدلة؛ فإما أن تحتجوا بما في البخاري كله، وإما ألا تركنوا إلى دليل يوافق هواكم.
ولذلك من شأن أهل البدع أنهم ينتقون من كلام الخصم ما يوافق هواهم، ويغضون الطرف عن بقية كلامه، حتى وإن كان مناقضاً لما قد يحتج به الخصم، أو صاحب البدعة.
ظهر من الحسن البصري عليه رحمة الله كلام يفهم على وجهين، فقد تكلم في القدر بكلام محتمل، يعني: له وجه حسن ووجه غير حسن، وجه يوافق القدرية، ووجه يوافق أهل السنة فيما يتعلق بمسألة في القدر.
وإذا كان كلام الإمام الحسن البصري يفهم على وجهين فإنه يصار لما صرح به مراراً وتكرارً على جهة الإثبات، فهو له كلام في إثبات القدر لا نهاية له، وكلام محتمل يحتمل النفي ويحتمل الإثبات، فكلامه الذي يحتمل وجهين لا بد أن يحمل على كلامه الذي يحتمل وجهاً واحداً.
فأهل البدع احتجوا بكلام للحسن يحتمل وجهين، والقاعدة العلمية تقول: إذا كان الكلام يحمل عدة معان ولا مرجح ولا قرينة؛ فحينئذ هذا الموطن موطن نزاع ينبغي اعتباره واحترامه، لكن إذا كان الكلام يحتمل عدة معان، ولي كلام آخر ليس له إلا معنى واحد، فلا بد أن يحمل كلامي الغامض على كلامي الصريح الواضح.
هذه جزئية من الدفاع عن الإمام.
الجزئية الثانية: أنه قد ثبت بالنص الصريح الصحيح أن الحسن قال هذا الكلام في وقت غضب، ولا شك أن الرجل إذا قال كلاماً في وقت الغضب فإنه لا يدرك معناه، أو لا يقصد المراد منه ظاهراً، وهذا الكلام معفو عنه، ولذلك قال الأعرابي الذي فقد راحلته في الصحراء ثم وجدها: (اللهم أنت عبدي وأنا ربك)، فهل يحق لأحد أن يتشبث بهذا؟ لا، فكذلك لا يحق لأهل البدع أن يتشبثوا بكلام الحسن البصري عليه رحمة الله إمام البصرة في زمانه، وسيد معظم من سادات التابعين؛ لا يحل لهم أن يحتجوا بكلامه، وإلا لو جاز لهم أن يحتجوا بهذا لقلنا لهم: يجب عليكم أن تحتجوا ببقية كلامه، فلماذا انتقيتم منه هذا النص فحسب، بل له في القدر ما يزيد على مائة نص، فلم تحتجون بواحد وتنسون بقية هذا العدد؟ لا شك أن الحامل على ذلك هو مرض قلوبهم.
الأمر الثالث: أن الحسن قال ذلك في موعظة، وليس في مجلس علم، ليس في مجلس تقرير المسائل العلمية بأدلتها الشرعية من الكتاب والسنة، وإنما قال ذلك في مجلس وعظ، وذلك في مكة، والمعلوم أن مجالس الوعظ يتساهل فيها المرء في الوعيد الشديد، ويتعدى ربما الحد أو الخط ا