إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [الباب الرابع: باب التصديق بأن الإيمان لا يصح لأحد ولا يكون العبد مؤمناً حتى يؤمن بالقدر خيره وشره، وأن المكذب بذلك إن مات عليه -أي: على التكذيب- دخل النار، والمخالف لذلك من الفرق الهالكة].
دليل ذلك: [عن ابن الديلمي قال: وقع في نفسي شيء من القدر -كأنه شك في شيء من القدر أو التبس عليه أمر من أمور القدر- فأتيت أبي بن كعب رضي الله عنه فسألته، فقال: إن الله عز وجل لو عذب أهل سماواته وأهل أرضه لم يظلمهم، ولو رحمهم كانت رحمته خيراً لهم من أعمالهم، ولو أنفقت أحداً ذهباً ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، ولو مت على غير هذا لمت على غير الفطرة التي فُطر عليها محمد صلى الله عليه وسلم.
قال ابن الديلمي: فخرجت من عنده -أي: من عند أبي بن كعب - فأتيت ابن مسعود فقال مثل ذلك، ثم أتيت حذيفة فقال مثل ذلك، ثم أتيت زيد بن ثابت فسألته فحدثني عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثل ذلك].
هذا الحديث يشير إلى ما حاك في نفس ابن الديلمي، وربما يكون الذي حاك في نفسه: أنه إذا كان الله تعالى قدر كل شيء، وعلم كل شيء قبل خلق هذه الأشياء؛ فلم قدر علي المعصية؟ وإذا كان هو المقدر لذلك فلم يعذبني إذاً؟ ولم يدخلني النار؟ أليس هذا من الظلم؟! والظلم منفي عن الله عز وجل، وكل صفات النقص لا تليق بالله عز وجل؛ لأنه متصف بصفات الكمال والجلال سبحانه وتعالى، فقال لما حاك في نفسه شيء من القدر: أتيت أبي بن كعب، وهذا مسلك أهل العقل والعدل دائماً، فالذي يحيك في نفسه شيء أياً كان هذا الشيء ما دام متعلقاً بالحلال والحرام، ومتعلقاً بمسائل الشرع؛ فإنه يجب عليه أن يهرع إلى أهل العلم؛ ولذلك قال الله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43].
فهذه الآية أوجبت على طائفتين واجبات: أوجبت على أهل الجهل أن يسألوا أهل العلم، وأوجبت على أهل العلم أن يجيبوا أهل الجهل بما قد سألوهم عنه، فلا يحل لجاهل أن يخفي سؤاله ولا يسأل عنه، ولا يمنعه من ذلك كبر ولا حياء، كما أنه أوجب على العالم إذا سئل في شيء أن يجيب ولا يكتم علمه، ومن كتمه فإنه يأتي يوم القيامة ملجماً بلجام من نار، والجزاء من جنس العمل.
قال ابن الديلمي: لما حاك في صدري ذلك الشيء أتيت أبي بن كعب رضي الله عنه -وهو من كبار الصحابة وسيد من سادات المسلمين- فقال: إن الله عز وجل لو عذب أهل سماواته وأهل أرضه لم يظلمهم.
أي: لو أن الله تعالى كتب على أهل السموات -أي: الملائكة- وأهل الأرض العذاب السرمدي الأبدي؛ لكتب ذلك غير ظالم لهم، وأنا أدلك على مصداق ذلك: لو كان العذاب والرحمة والجنة والنار متعلقات بالعمل فحسب في مقابل نعم الله عز وجل عليك؛ لما كافأت عبادتك نعمة واحدة من نعم الله عليك، وإذا كانت المسألة مسألة موازين العمل الصالح وغير الصالح، وأن من عمل صالحاً دخل الجنة ولابد؛ فإن الأمر لا بد أن يكون فيه شيء من العدل، فستوضع نعم الله تعالى على العبد في كفة وعبادة العبد في كفة أخرى، فينظر: هل تزن هذه الأعمال نعم الله عز وجل عليه أم لا؟
صلى الله عليه وسلم لا؛ لأنه قد جاء بسند لا بأس به عند الحاكم: (أن رجلاً عبد الله ستمائة سنة، فجيء به يوم القيامة فقال الله تعالى لملائكته: أدخلوا عبدي الجنة برحمتي.
قال: لا يا رب! بل بعملي -فقد تصور أنه بهذه العبادة استحق الجنة- فقال الله تعالى: زنوا عمل عبدي وزنوا نعمي عليه -وفي رواية-: وزنوا نعمة البصر) وهي نعمة واحدة، والله تعالى يقول: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:34].
قال: (فلما وضعوا نعمة البصر في كفة وعبادة الرجل ستمائة سنة في كفة؛ طاشت تلك العبادة) يعني: لم تثبت هذه العبادة أمام نعمة واحدة من نعم الله عز وجل، فلو كان الأمر متعلقاً بالعمل فحسب فإن الله تعالى لو عذب العابدين فضلاً عن العصاة، وفضلاً عن الكافرين، فهو غير ظالم لهم؛ لأن عبادتهم لا يمكن أن تكافئ نعمه عليهم، ولكن رحمة الله تبارك وتعالى هي الدليل والقائد للعبد الطائع إلى جنة الله عز وجل؛ ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ولن يدخل أحد منكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله