عقوبة السكران في الدنيا الجلد؛ وذلك لأنه لما حرمت الخمر كان هناك أناس قد تعلقت نفوسهم بها، وألفوها، وصعب عليهم الانفطام عنها؛ فشربها إنسان منهم فجيء به وهو ثمل سكران، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بجلده، فجلده الحاضرون بالنعال وبالعصي ونحوها نحواً من أربعين جلدة، واستمر على ذلك الحد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم نحو أربعين جلدة، وكذلك أبو بكر كان يجلد شارب الخمر أربعين جلدة.
ولما كان عهد عمر رضي الله عنه دخل في الإسلام كثير من أهل البلاد النائية الذين كانوا قد اعتادوا على شرب الخمر، واستماتوا فيها واعتادوها، وتمكنت من نفوسهم سواء كانوا من الفرس في العراق، أو من الروم ونحوهم في الشام، أو من القبط ونحوهم في مصر، أو من أشبههم ممن دخلوا في الإسلام، فكانوا قد اعتادوا هذا الشراب، ودعوا إليه أيضاً بعض العرب وزينوا لهم شربه، فلما جلدوا أربعين جلدة لم تؤثر فيهم هذه الأربعين، ولم تزجرهم عن تعاطي شربها، بل شربها آخرون، ولم يبالوا بالجلد، فاستشار عمر الصحابة لما بلغه كثرة من يشربها في الشام وفي العراق وفي مصر، وفي غيرها من البلاد التي فتحت في عهده، فرأى أن الزيادة في الحد أولى من بقائه على الأربعين؛ لأن الأربعين قد لا تكفي في زجرهم، فاستشار الصحابة رضي الله عنهم، فقال عبد الرحمن بن عوف: (إنه إذا شرب هذى، وإذا هذى افترى، وحد المفتري ثمانون) ، والمفتري: هو القاذف الذي ذكر الله أن حده ثمانون، وقال أيضاً: (أخف الحدود حد القذف ثمانون جلدة، فلا ينقص عن الثمانين) ، فأمر به عمر رضي الله عنه، فكان يجلد الشارب ثمانين جلدة، ويشددون عليه حتى ينزجر بذلك ويرتدع غيره عن أن يفعلوا كفعله، واستمر الأمر على ذلك، فاختلف العلماء: هل هذه الزيادة التي زادها عمر تعتبر حداً؛ لأنه قال: أخف الحدود ثمانون، أو تعتبر تعزيراً؟ أي: هذه الأربعون الزائدة هل تعتبر تعزيراً أم أنها حد؟ يرى كثير منهم أن الحد أربعون؛ لأنه الذي كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وأما الزيادة فتستعمل إذا كثر الشرب، فإذا كثر السكر في مدينة أو في بلدة ولم ينزجروا بالأربعين فيزاد فيه إلى الثمانين، وقد تجوز الزيادة إلى المائة أو إلى أكثر حتى يحصل الانزجار والارتداع؛ وذلك لأن هذا تعزير، والتعزير ليس له منتهى وليس له حد، وإنما هو بقدر الحاجة، وبقدر ما تحصل به الكفاية.
وقد تصل العقوبة إلى أشد من ذلك، فقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إن شرب الخمر فاجلدوه، ثم إن شرب فاجلدوه، ثم إن شرب فاجلدوه، ثم إن شرب الرابعة فاقتلوه) ، فأمر بقتله إذا تكرر منه الشرب ولم يرتدع بهذا الجلد، هذا الحديث يقول بعض العلماء: إنه منسوخ، ويقولون: إنه لم يُعمل به، ولكن صحح كثير من العلماء أنه لم ينسخ، وأنه باقٍ؛ وذلك لكثرة طرقه التي جاء بها، حتى روي عن نحو عشرة من الصحابة رضي الله عنهم رووا هذا الحديث، وبعضهم ممن تأخر في دخول الإسلام، وهو يشتمل على الأمر بقتل الشارب إذا حد ثلاث مرات، فإذا جلد مرة أربعين ثم جلد أربعين ثم جلد أربعين ولم ينزجر وعاد في المرة الرابعة فحده أن يقتل، وأن يسلب حياته هذه التي هي حياة بؤس؛ حيث إنه لم ينزجر ولم يرتدع فلا يردعه إلا القتل والإعدام.
هكذا جاء هذا الحديث مما يدل على بشاعة هذه الخمر وشناعتها وشدة العقوبة التي رتبت عليها؛ لأنها أم الخبائث، ولأن التساهل فيها قد يؤدي إلى الشرور والأضرار؛ ولأن الله تعالى ما حرم شيئاً إلا وفيه مضرة، وما حرم على العباد إلا الشيء الذي يضرهم، ولا شك أن الخمر غاية في الضرر؛ وذلك لأن الذي يشربها ويتعاطاها قد يفقد عقله يفقد إحساسه يفقد ميزته التي تميز بها وهي هذا العقل، فالعقل هو ميزة الإنسان العقل هو شرفه العقل هو فضل الله عليه الذي تميز به، فبه يكتسب، وبه يحسن التصرف، وبه يبيع ويشتري، وبه يأخذ ويعطي، وبه يعقل ما يقول، وبه يبتكر ويفكر، وبه يعرف ما ينفعه وما يضره، فالشيء الذي يزيل هذا العقل ويلحق صاحبه بالبهائم، أو أقل حالة من البهائم ينبغي أن يحارب في كل شريعة، وينبغي أن يقضى عليه، ألا وهو هذا المسكر، فإنه بلا شك يزيل ويغطي هذا العقل من الإنسان، فلذلك جاءت الشريعة الإسلامية بالقضاء عليه، وبالزجر عنه، وبالعقوبة عليه.
والعقوبة في الآخرة -كما ذكرنا- أن أهله يشربون من عصارة أهل النار، وأنهم يمنعون من لذة أهل الجنة، والعقوبة في الدنيا أنه يقتل إذا تكرر منه تعاطي الخمر أربع مرات ولم ينزجر بالجلد، ولا شك أن هذا دليل على بشاعة هذه الخمر، وشناعتها والعقوبة عليها.