قال المصنف رحمنا الله تعالى وإياه: [عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (لما فتح الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم مكة، قتلت خزاعة رجلاً من هذيل بقتيل كان لهم في الجاهلية، فقام النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن الله عز وجل قد حبس عن مكة الفيل، وسلط عليها رسوله والمؤمنين، ألا وإنها لم تحل لأحد قبلي، ولا تحل لأحد بعدي، وإنما أحلت لي ساعة من نهار، وإنها ساعتي هذه حرام، لا يعضد شجرها، ولا يختلا شوكها، ولا تلتقط ساقطتها إلا لمنشد، ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين: إما أن يقتل، وإما أن يفدى، فقام رجل من أهل اليمن يقال له: أبو شاه فقال: يا رسول الله! اكتبوا لي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اكتبوا لـ أبي شاه، ثم قام العباس فقال: يا رسول الله! إلا الإذخر فإنا نجعله في بيوتنا وقبورنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إلا الإذخر) ] .
هذا الحديث يتعلق بالقصاص، وفي هذه القصة أن النبي صلى الله عليه وسلم غزا مكة في سنة ثمان بعد أن قواه الله تعالى ونصره، وآمن معه من آمن، فاجتمع معه عشرة آلاف، وتوجه بهم إلى مكة بسبب نقضهم العهد الذي تعاهدوا عليه في سنة ست في الحديبية، ولما غزاهم ودخل مكة، أحل الله له القتال فيها، فقاتلوا فيها من أول النهار إلى قرب العصر، ثم بعد ذلك استسلم أهل مكة وأمنهم، واستتب الأمن ولم يعد يقاتلهم.
ولما أسلم أهل مكة واطمأنوا، ودخل الناس في مكة، واجتمع بعضهم مع بعض، كان هناك بعض من الجاهليين الذين معهم شيء من حمية الجاهلية، ومن العادات القديمة التي منها الأخذ بالثأر، فكانت قبيلة خزاعة قد قُتل منهم قتيل في الجاهلية، قتلته هذيل، وقيل: إن هذيلاً هي التي كان لها قتيل، فقتلت خزاعة هذلياً، أو قتلت هذيل خزاعياً، وقالوا: ما دام أن مكة زالت حرمتها؛ فلماذا لا نأخذ بالثأر؟ واعتقدوا أن حرمة مكة إنما هي في الجاهلية، وأنها ليست بلدة محرمة، وأنه يجوز أخذ الثأر فيها، ويجوز القتال فيها، فقتلوا القتيل فأخطئوا خطأين: الخطأ الأول: الأخذ بالثأر الجاهلي.
الخطأ الثاني: استحلال القتال في البلد الحرام.
فلما فعلوا ذلك غضب النبي صلى الله عليه وسلم، وخطب هذه الخطبة في المسجد الحرام، فأخبر بأن هذا البلد حرام حرمه الله تعالى منذ خلق السماوات والأرض، وأنه لا يزال على حرمته، قال الله تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} [آل عمران:97] ، وقال تعالى: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} [القصص:57] (حرماً آمناً يجبى إليه) أي: يجلب إليه الثمرات من كل البلاد، وقال تعالى: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا} [النمل:91] البلدة هي مكة، أن أعبد الله حيث إنه حرم هذه البلدة، فهذه الآيات ونحوها تدل على أن هذا البلد الذي هو مكة له أهميته، وله منزلته، وأنه باق على حرمته.
والحاصل أنه صلى الله عليه وسلم أنكر على هؤلاء الذين قتلوا في مكة، وقد ثبت أيضاً أنه صلى الله عليه وسلم خطب خطبة بليغة في حجة الوداع في عرفة، وكان من جملة ما ذكره أنه قال: (إن دماء الجاهلية موضوعة تحت قدمي هاتين، وأول دم أضعه دم بني هاشم) أي: رجل من بني هاشم قتلته هذيل، فوضع دماء الجاهلية، ونعرات الجاهلية، والعادات الجاهلية، فعرف بذلك أن القتل في المسجد الحرام، والقتال فيه؛ لا يجوز، وإذا قيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد أبيح له القتال فيها؟ ف
صلى الله عليه وسلم أن الله أباحه لنبيه، وأذن له ولم يأذن لغيره كما في هذا الحديث، يقول صلى الله عليه وسلم: (إن الله حبس عن مكة الفيل، وسلط عليها رسوله والمؤمنين) لما جاء أصحاب الفيل ليستبيحوا حرمة هذا البلد؛ حبسهم الله وردهم {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ} [الفيل:3-4] ، أما النبي صلى الله عليه وسلم فإن الله سلطه عليهم لما أصروا على الكفر، واستمروا عليه، واستباحوا البلد الحرام بأن جعلوه بلاد كفر وشرك، وردوا الرسالة النبوية، فأمره أن يقاتلهم، وأحل له القتال في هذا البلد هذا اليوم، ثم بعد ذلك عادت حرمة هذا البلد كما كانت، فأخبر أنه عادت حرمته اليوم كحرمته بالأمس، وأخبر أنه يحرم فيه سفك الدماء والقتال؛ وذلك لحرمة المكان، والذي يقتل فيه يعتبر قد فعل جرمين: الأول: أنه سفك دماً حراماً بغير حق، ولو كان مظلوماً.
الثاني: أنه تهاون بحرمة البيت الحرام وبحرمة البلد الحرام، فاستحل ما حرم الله.