الحكمة في العدة ظاهرة، فالحامل لا تتزوج حتى تضع حملها؛ لأن هذا الحمل من الزوج السابق، ولا يجوز لها أن تتزوج فيطؤها الزوج الجديد فيختلط الماءان، وقد ورد النهي الشديد عن وطء الحبلى، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسق ماءه ولد غيره) يعني: لا يطأ الحامل التي حملها من غيره؛ وذلك لأن الوطء يكون زيادة لهذا الحمل أو تنمية له، يزيد المني في سمعه أو في حواسه أو نحو ذلك، فلأجل ذلك سماه سقيا: (لا يسقي ماءه ولد غيره) ، وفي رواية: (زرع غيره) ، حتى لا تختلط الأنساب؛ لأنها إذا تزوجت وهي حامل فربما تنسب الولد إلى الزوج الجديد، وتنكر أنه لزوجها القديم، فيحصل بذلك اختلاط الأنساب، وكون هذا الإنسان انتسب إلى غير أبيه، والأم تعرف أنه قد انعقد الحمل في رحمها، فلا يحل لها أن تتزوج وهي حامل، بل عليها أن تخبر بما في رحمها، قال تعالى: {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [البقرة:228] ، فلا تكتم الحمل الذي في رحمها، ولا تكتم الحبل الذي في رحمها، بل تخبر بحقيقة الأمر، وهي مصدقة ومقبولة الكلام، والأمر يرجع إليها.
أما تربص المطلقة فمعلوم أن الحكمة في ذلك الرفق بزوجها، فإذا طلقها ثلاثاً أو طلقها آخر ثلاث، أو طلقها واحدة أو اثنتين، فإنها لا تتزوج حتى تمكث ثلاث حيض، فإن كانت رجعية بأن كان الطلاق واحداً أو اثنتين أمكنه أن يراجعها في هذه المدة، قال الله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا} [البقرة:228] أي: في ذلك الوقت والزمان الذي هو العدة، أي: أن الزوج إذا طلقها واحدة ومكثت ثلاثة قروء يمكن أن يستردها بأن يعيدها إلى عصمته، يقول الله تعالى: {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق:1] فأمره أن يطلقها لعدتها، وأن يتركها في بيتها، وأن تبقى على حالتها معه لا تحتجب عنه، فإذا بدا له في هذه المدة مراجعتها، وتغيرت نيته وراجعها، رجعت إلى عصمته، وعادت الأمور إلى ما كانت عليه، ورجعت الزوجية وحسنت الحال، فقد يحصل تأسف من أحدهما بعد وقوع الطلاق، فإذا كان الطلاق رجعياً وكانت المدة طويلة ثلاثة أشهر أو ثلاث حيض كان في الإمكان أن يتراجعا، فجعلت هذه المدة فسحة للزوج حتى يراجع نفسه.
وكذلك إذا كانت المطلقة تعتد بالأشهر كالآيسة والصغيرة، فإن عدتها ثلاثة أشهر، وفي هذه الثلاثة الأشهر أيضاً فسحة، ربما يتأسف فيعيدها، سيما إذا كانت طويلة الصحبة، وكانت أم أولاده، فإنه قد يندم بعد ذلك، وهي أيضاً قد تندم إذا حصل الطلاق بسبب من قبلها، بأن تكون هي التي طلبت الطلاق أو أساءت المعاملة أو شددت عليه الصحبة، أو في العشرة، ثم وقع الطلاق، وكان الطلاق واحدة أو اثنتين؛ فجعلت العدة لها حتى تراجع نفسها وحتى تنظر في أمرها، فربما تتأسف وتقول له: أريد الرجعة، وأحب أن تعيدني، وسوف أحسن العشرة، وأحسن الخلق، ولا أعود إلى طلب طلاق، ولا أعود إلى سباب، ولا إلى سوء معاملة، ولا إلى عصيان ونشوز ومخالفة.
فعند ذلك يعيدها إلى ما كانت عليه، فعرف أن شرعية هذه العدة سببه الرفق بالزوج، والإحسان إليه.
وأما المتوفى عنها إذا كانت حاملاً فمعلوم أن زوجها لا رجوع له عليها في الدنيا، بل قد بانت منه البينونة الكبرى التي هي الموت، فإذا مات فإنه لا جمع بينهما في الدنيا، فإذاً: تحل لغيره، ولكن بعدما تنقضي عدتها، فإن لم تكن حاملاً انتظرت أربعة أشهر مخافة أن يكون في بطنها حمل وهي لم تشعر به.
والغالب أن الأربعة الأشهر يتقلب فيها الجنين إلى أن ينفخ فيه الروح، أربعة أشهر هي أربعون يوماً نطفة ثم علقة ثم مضغة، ثم بعد الأربعة الأشهر ينفخ فيه الروح فيتحرك، فإذا مضت الأربعة الأشهر جعلت العشرة الأيام احتياطاً حتى تعرف، فإن كان فيها حمل أحست به وبحركته، فإذا لم يكن فيها حمل تبين أنها حائل، وجعلت الأربعة الأشهر وعشرة الأيام لكل مطلقة حتى ولو كان يأتيها الحيض كل شهر، وتتحقق براءة رحمها، فجعلت العدة والاحداد لكل متوفى عنها سواءً كانت حائضاً أو آيسة أو في بطنها حمل لم يتبين، فإذا تبين براءة رحمها في الأربعة الأشهر والعشرة عند ذلك تمت عدتها.
ومعلوم أنها في هذه المدة تستطيع أن تصبر عن الزواج أربعة أشهر، وقد تصبر أيضاً أكثر من ذلك، ولكن هذه المدة هي التي يخشى إذا طالت المدة فوقها أن يضر ذلك بها، فإن لها شهوة كما للرجال شهوة، فجعل الله هذه المدة لأنها مدة مستطاعة لكل من الزوجين، ولكل منهما مراجعة الآخر، والنظر في حاله في الطلاق الرجعي وفي غيره.
أما المطلقة التي طلقت ثلاثاً فمعلوم أنه لا رجعة لزوجها عليها، ومع ذلك تعتد ثلاثة قروء أو ثلاثة أشهر، ولعل الحكمة في ذلك الاحتياط للنكاح حتى لا تكون مثلاً قد انتهت عدتها في شهر أو في نصف شهر فتستعجل النكاح، فجعل لها ثلاث حيض أو ثلاثة أشهر احتياطاً للحمل، واحتياطاً لحفظ الأرحام، ولتكون عدة المطلقة على نمط وباب واحد.
واعلم أن باب العدد قد ذكرت أدلته في القرآن كما أشرنا إلى ذلك، فيعرف بذلك أنه من أهم المهمات، وأن أدلته واضحة في كتاب الله وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.