وقد ثبت -أيضاً- في الصحيح قصة أخرى قصة عبد الله بن عمرو بن العاص، وكان في شبابه عابداً مجتهداً في العبادة، حتى كان يختم القرآن في كل ليلة، ويصوم النهار كله ولا يفطر، فلما زوجه أبوه مكث مدة وهو يسأل امرأته يقول: (ما فعل؟ فتقول: نعم الرجل من رجل لم يطأ لنا فراشاً ولم يفتش لنا كنفاً) أي أنه لم يطأها ولم يجامعها ولم يجلس معها ولم ينم معها.
وذلك كله بسبب اشتغاله بالعبادة اشتغاله بالصيام والقيام والاجتهاد في الطاعة حرصاً منه على أن يكون من السابقين في العبادة، ولكن استدعاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: (كيف تصوم؟ فقال: كل يوم.
فقال: إنك لا تطيق، فصم من الشهر ثلاثة أيام وذلك يكفيك؛ فإن الحسنة بعشر أمثالها، وذلك كصيام الدهر.
فقال: إني أطيق أفضل من ذلك -يقول عبد الله: شددت فشدد عليّ- فقال: صم يوماً وأفطر يومين.
فقال: إني أطيق أفضل من ذلك.
فقال: صم يوماً وأفطر يوماً، وذلك صيام داود.
يقول عبد الله: فقلت: إني أطيق أفضل من ذلك.
فقال: لا أفضل من ذلك) يقول بعد أن كبر: تمنيت أني قبلت رخصة النبي صلى الله عليه وسلم في صيام ثلاثة أيام، وذلك لأنه بعد ما كبر أحس بالمشقة عليه.
كذلك في القيام أرشده إلى أن يختم كل سبعة أيام، يقرأ سبع القرآن في ليلة، ويختم كل سبعة أيام ولا يزيد، وأن يجعل لأهله حقاً فقال: (إن لنفسك عليك حقاً، وإن لزوجك عليك حقاً، وإن لربك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه) فقبل ذلك، وعند ذلك خفف على نفسه.
وعلى كل حال فهذا دليل على أنه لا يجوز للإنسان أن يشدد على نفسه بالعبادة، ولا أن يشدد على نفسه بترك الزينة أو ترك الشهوات المباحة، ومن جملة الشهوات المباحة النكاح الذي أباحه الله، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم رغب في النكاح وغيره من المباحات، ونهى عن التشدد فيها.