قوله صلى الله عليه وسلم في حديث حكيم: (فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما) في هذا الحديث يحث صلى الله عليه وسلم على الصدق وعلى البيان، فيقول: (فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما) ، وهذه الجملة قد تحتاج إلى كلام طويل، ولكن نذكر فيها كلمات قليلة يظهر بها المعنى المراد إن شاء الله، فنقول: واجب على البائع أن ينصح لأخيه المشتري، وأن يبين له الحقيقة التي يقع فيها، فإذا علم مثلاً أنه مغبون، وأن السلع رخيصة، فعليه أن يبين، ولا ينتهز غفلته؛ وذلك لأن المشتري قد يدخل السوق ولا يشعر أن السلع قد رخصت فيشتري غالياً، فيشتري -مثلاً- العمامة بخمسين، ويشتري الثوب بأربعين، وهما رخيصان عند الناس ولا يدري، فالمشتري جاهل، ففي نظره أن هذه هي قيمة السلع، ولكن البائع عالم بأنه مغبون، وعالم بأنه سيجد أرخص منها فيبيعه، وفي هذه الحال نقول: على المشتري أن يبحث، وعلى البائع أن ينصح ويبين.
وكذلك -أيضاً- كثير من الباعة قد يكتمون العيوب ويظهرون المصالح، فيبيع السيارة وهو يعلم أن فيها عيباً، ويعلم أن فيها نقصاً، ويقول: أبيعك هذه السيارة التي أمامك وأنا غير مسئول عنها، فنقول: لا يكفي ذلك؛ لقوله: (فإن صدقا وبينا) ، فلا تكتم العيب الذي تعلمه، بل أخبر بما تعلمه فيها، وقل: ينقصها كذا وكذا، وفيها عيب كذا وكذا، ولست بمسئول عن غيره من العيوب، فلا أدري، وهذا هو الذي أعرفه، هذا هو البيان، وكذلك في جميع الحالات، فلابد من بيان ما تعرفه في هذه السلعة، فهذا معنى قوله: (صدقا وبينا) .
وكذلك لو استرشد البائع وقال: أنا أبيعك بما يبيع الناس، والبائع جاهل ببيع هذه السلع من أكياس أو غتر أو ثياب، فجاء بها إلى هذا السوق وقال: أبيعك مثلما يبيع الناس أو مثلما يشترون، فخدعته أنت وقلت: الناس يشترونها بخمسين، وأنت تعلم أنهم يشترونها بستين أو بخمسة وخمسين أو نحو ذلك، فصدقك وباعك، ففي هذه الحال تكون قد كتمت، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما) ، فعليك أن تبين وتقول: الناس يشترونها بخمسة وخمسين ويطلبون الربح فيها، فأنا أشتري كما يشتري الناس.
وكذلك لو قال لك: بعني مثلما يبيع الناس، وأنت تعرف أن الناس يبيعون بعشرة، فكتمت وقلت: الناس يبيعون بخمسة عشر، وأنت كاذب، وتعرف أنهم يبيعون بعشرة، وهم مع ذلك يربحون؛ لأنهم قد اشتروا بتسعة أو اشتروا بثمانية، فلا شك أن هذا أيضاً من الكذب والكتمان، (فإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما) .
والأمثلة على ذلك كثيرة لا نطيل بها، ففي كل الحالات يلتزم الإنسان الصدق، فلا ينتهز غفلة المشتري ويزيد عليه ويكتمه ما يعرفه الناس، وكذلك لا ينتهز غفلته فيشتري منه وهو جاهل.
وكثير من الناس إذا رأى رغبة في الأرض الفلانية أتى إلى صاحبها وخدعه، واشترى منه وهو يعلم أنها محل رغبة، وأن الناس سيقبلون عليها، وأن سعرها قد يرتفع وهو لا يعلم، فيخدعه ويشتريها برخص، وهذا من الكتمان.
وكذلك كثير من الناس يعلم أن هذه المساكن -مثلاً- قد نزعت ملكيتها، وسيعوض أهلها، فيأتي إلى أهلها أو إلى بعضهم ويشتريها منهم برخص، ويكتمهم الخير حتى يكون له التعويض، وأشباه ذلك، وهذا كله من الكتمان، وهو داخل في هذا الحديث: (فإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما) .
والبركة: هي كثرة الخير، أخبر أنه مع الصدق والبيان تحصل البركة، ومع الكذب والكتمان يحصل المحق، والمحق قد يكون حقيقياً، وقد يكون معنوياً، والحقيقي هو أنه ولو كثرت أمواله، ولو كثرت أرباحه وتجارته، فإنه لا يجد لها أثراً، بحيث يبقى قلبه فقيراً، أو أنه يتسلط عليها وينفقها في أشياء لا أهمية لها، فلا يجد لها موقعاً، أو أن الله تعالى يتلفها إتلافاً ظاهراً، فيبقى فقيراً مدقعاً بسبب كونه لم ينصح لإخوته المسلمين، ولم يصدقهم، ولم يبين لهم.