ذكر العلماء للتفرق حالات أقربها مثلاً أنهما إذا تفرقا، أدبر هذا وأدبر هذا، بحيث لو التفت إليه ودعاه باسمه لم يسمع، فلو دعاه باسمه دعاء معتاداً ولو برفع الصوت: يا فلان! فلم يسمع؛ يحسب هذا تفرقاً.
كذلك إذا كانا في منزل فخرج أحدهما من حجرة ودخل الحجرة الثانية، يعتبر تفرقا.
وكذلك لو اشترى منك في دكانك، وغاب عنك في زقاق آخر، أو في سكة أخرى، وخفي عليك؛ اعتبر هذا تفرقاً، فالتفرق يلزم البيع.
ولو قال أحدهما بعد ذلك: ندمت، قاله البائع أو قاله المشتري، لم يقبل منه؛ وذلك لأنه ينبني على هذا البيع ملكية التصرف ما دام أنه قد لزم، فالمشتري قد يلبس الثوب مثلاً، أو يلبس الحذاء، أو يأكل من الطعام إذا كان فاكهة أو نحو ذلك، والبائع قد يتصرف في النقود، فقد يفي بها ديناً، وقد يشتري بها سلعاً، وقد يصرفها، فإذا ندم بعد يوم، أو بعد نصف يوم أو بعدما تفرقا لا ينفعه هذا الندم.
ولو تفرقا وكانا قد اشترطا خياراً، فإن المسلمين على شروطهم، وذلك فيما إذا كان الأمر يحتاج إلى مشاورة في الأمور التي لها قيمة، ولها قدر، ولها مقام، كما لو اشترى أرضاً -مثلاً- بمائة ألف، وهو يحتاج إلى عمارتها، اشتراها بمائة ونقد بعض الثمن، ولكن اشترط وقال: لي الخيار خمسة أيام أو أسبوع أستشير وأنظر، فله -والحال هذه- أن يرجع في هذه الخمسة الأيام؛ لأنه قد يسأل عن الجيران فلا يناسبونه مثلاً، وقد يبحث عن الثمن فقد لا يجده مجتمعاً عنده أو نحو ذلك، فلذلك يصح شرط الخيار.
أما إذا لم يشترط فاشترى منك الأرض بمائة ألف وأعطاك مقدم الثمن خمسة آلاف أو أكثر أو أقل، ثم إنه ندم بعد يوم أو بعد نصف يوم أو بعد ساعة، بعدما تفرقا، وقال: ندمت، ورأيت أني مغبون، فخذ أرضك ورد علي ثمني فليس له ذلك؛ فإنه قد وجب البيع بالتفرق، فلا يقبل، ويستطيع البائع أن يشتكيه، ويأخذ منه بقية الثمن.
وكذلك لو ندم البائع، فلو فكر البائع وقال: إنني فكرت وإذا أنا بحاجة إلى أرضي، أو إلى بستاني، أو إلى عمارتي، ولا أستغني عنها، فخذ دراهمك ورد علي مفاتيحها، أو رد علي وثائقها، فامتنع المشتري؛ فله ذلك، ولا يقدر البائع أن يلزمه باسترجاعها؛ وذلك لأنه ملكها بهذا العقد بمجرد التفرق، فبمجرد ما يحصل التفرق بينهما -بدون شرط خيار- يلزم البيع، ولا يحصل بذلك لأحدهما رجوع، فهذا معنى أن لهما الخيار.
ولو أسقطاه في حالة اجتماعهما سقط قبل أن يتفرقا، فإذا اشترى منك سيارة بثلاثين ألفاً مثلاً وفحصها وعرف صلاحيتها، وقال البائع: أنا بعتها بيعاً منجزاً لا خيار لي، وليس لي أن أرجع، فقال المشتري: قبلتها واشتريتها وليس لي خيار، وليس لي أن أرجع، فأسقطاه جميعاً قبل أن يتفرقا، فإنه يسقط؛ وذلك لأنه ما أسقط سقط، فما داما قد تبايعا على ألا خيار بينهما فإنه يسقط، كما إذا اشترطاه مدة يوم، أو مدة يومين، أو مدة أسبوع يبقى، وهذا معنى قوله: (أو يخير أحدهما صاحبه، فإن خير أحدهما صاحبه وتبايعا على ذلك فقد وجب البيع) .
فالحاصل أنه يلزم البيع بالتفرق أو بإسقاط الخيار أو بمضي مدته التي اشترطت، فإذا شرط أن له الخيار خمسة أيام أو نحوها، ومضت قبل أن يستقيل؛ فإنه يلزم البيع.
لكن لو اشترى منك -مثلاً- بيتاً، وبعدما سلمك الثمن ندم بعد يوم أو بعد أيام، وتبين له أنه مغبون وأنه خاسر، وجاء إليك وقال: رد علي دراهمي فقد ندمت، فإن هذا يسمى نادماً، ويسمى رد دراهمه عليه (إقالة) ، ويسمى هو: مستقيلاً، ويندب لك أن تقيله؛ لأنه ورد في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: (من أقال نادماً بيعته أقال الله عثرته يوم القيامة) ، وسواء أكان الذي ندم هو البائع أم المشتري، فقد يندم البائع ويقول: تسرعت في بيع هذا المسكن الذي أسكن فيه أنا وأولادي أو في بيع هذه السيارة التي أركبها، ندمت فرد علي بيتي أو سيارتي وخذ دراهمك فإني قد ندمت، فيستحب لك أن تقيله وترد عليه بيعه، وهذا بعد التفرق، أما قبل التفرق فليس له أن يمتنع، فمن ندم منهما فليس للآخر أن يمتنع، بل يفسخ بمجرد طلبه الفسخ؛ لأن لكل منهما الفسخ.
ويمكن أيضاً أن يكون لأحدهما الخيار دون الآخر، فلو تبايعا وهما في المجلس فقال البائع: أنا بعته جزماً ولا خيار لي، وسكت المشتري، ثم ندم المشتري؛ فله الخيار، وأما البائع فليس له خيار إذا ندم، وليس له الإقالة، وكذا العكس.