أما الاستلام ففي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يستلم إلا الركنين اليمانيين، أما الركنان الشاميان فلا يستلمهما.
والبيت له أربعة أركان -أي: أربع زوايا-: ركنان يمانيان في جهة اليمن، وركنان شاميان في جهة الشام، والركن الشرقي الجنوبي هو الذي فيه الحجر الأسود، وهو -أيضاً- في جهة اليمن، والركن الغربي الجنوي يطلق عليه الركن اليماني، فهذان هما اللذان يستلمان، أما الركن اليماني فإنه يستلم باليد بأن يضع عليه يده دون أن يقبل، فإذا تيسر أن يضع عليه يده فإنه يفعل ذلك، فإذا لم يتيسر فإنه يمضي ولا يكبر ولا يشير إليه، أما الركن الذي فيه الحجر الأسود فإنه إن استطاع أن يقبله بوضع شفتيه فعل، فإذا لم يستطع تقبيله استلمه بيده وقبل يده، فإذا لم يقدر استلمه بعصاً وقبل العصا، فإذا لم يستطع أشار إليه بيده ومضى ولا يقبل شيئاً.
والدليل على أن يستلمه بالمحجن أو بالعصا هذا الحديث، وهو: أنه صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع طاف على بعيره ومعه محجن يستلم به الركن اليماني والحجر الأسود كلما حاذاهما.
وذكروا أن الناس في حجة الوداع تزاحموا عليه، كلهم يريد أن ينظر إليه كيف يطوف وكيف يعمل، فأحب أن يبرز لهم، فقرب بعيره وطاف على البعير، طاف السبعة الأشواط، ويحتمل أن ذلك طواف القدوم أو أنه طواف الإفاضة أو طواف الوداع، وكان في يده محجن -أي: عصاً محنية الرأس-، فكان كلما حاذى الركن اليماني دلى ذلك المحجن، ثم يستلم الركن اليماني، ثم إذا أتى على الحجر الأسود مد يده بذلك المحجن واستلم الركن الذي فيه الحجر.
أما الركنان الشاميان فلم يكن يستلمهما، لا بمحجن ولا بيده ولا يشير إليهما، ولعل السبب في ذلك ما نقل عن ابن عباس أنهما لم يكونا على قواعد إبراهيم، أما الركنان اليمانيان فعلى قواعد إبراهيم فالزاوية اليمانية وكذلك الجدار الغربي والجدار الشرقي كلاهما على قواعد إبراهيم، أما الجدار الشمالي فإنه قد نقص من جهة الشمال، فقد ترك المشركون عندما بنوا البيت جزءاً من البيت في جهته الشمالية نحو ستة أذرع أو سبعة أذرع من الحجر لم يبنوها، وذلك لأنهم قصرت بهم النفقة، فلما كان الركنان الشاميان ليسا على قواعد إبراهيم لم يستلمهما لا بإشارة ولا بيده.
وقد روي عن بعض السلف أنهم يستلمونهما، وروي أن معاوية طاف مع ابن عباس، فكان معاوية يستلم الأركان الأربعة كلها.
ويقول: ليس من البيت شيء مهجور.
فقال له ابن عباس: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21] ، فلنا أسوة حسنة في النبي عليه الصلاة والسلام في أنه لم يستلم إلا الركنين اليمانيين، ولو كان سنة لفعله ولاستلم هذه الأركان كلها.
وبذلك نعرف في نهاية الكلام أن الطواف بهذا البيت العتيق يجب فيه الاتباع فنتبع فيه ولا نبتدع، ونقتدي فيه بما فعله النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك لأن الله تعالى أمرنا بالطواف مطلقاً في قوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:29] .
والطواف في الأصل هو الاستدارة حول الشيء، وكذلك الطواف بين الصفا والمروة في قوله: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة:158] يعني: يصل الصفا ثم يصل المروة.
إذاً: الطواف بالبيت هو الدوران حوله، هذا هو الأصل.
وهذه الكيفية قد يكون فيها شيء من الإجمال، فنحتاج إلى أن نعرف كيفيتها على التفصيل، فنرجع إلى السنة النبوية، فنجد النبي صلى الله عليه وسلم قد بينها بفعله مع قوله: (خذوا عني مناسككم) ، فنتبع النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك.
والطواف بهذا البيت ليس عبادة للبيت، ولكنه عبادة لرب البيت، وتعظيم لرب البيت، وذكر لرب البيت، ولهذا يقول الله تعالى: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ} [قريش:3] ، ولم يقل: فليعبدوا هذا البيت.
ولأجل ذلك قالت عائشة رضي الله عنها: (إنما جعل الطواف بالبيت وبالصفا والمروة ورمي الجمار؛ لإقامة ذكر الله) .
إذاً الطائف بهذا البيت والذي يستلم ما يستلمه كل ذلك لا يذكر فيه البيت، وإنما يذكر رب البيت، ففي دعائه يقول: يا الله يا رب اللهم! اغفر لنا، اللهم! ارحمنا وأكرمنا.
ولا يقول: يا بيت الله وكذلك عند استلامه يقول: الله أكبر! أو: باسم الله، ولا يقول: باسم البيت، ولا يقول: يا بيت الله، فدل على أنه عندما يقول وعندما يفعل إنما يذكر الله، وإنما يعبد رب البيت وحده، فالطواف بالبيت عبادة للرب سبحانه، كما أن الصلاة واستقبال البيت فيها إنما هي عبادة لله تعالى.