في هذا الحديث أن الصحابة لما قدموا سنة سبع لعمرة القضية، وكانوا قد جاءوا إلى مكة سنة ست معتمرين صدهم المشركون، واصطلحوا على أن يأتوا في سنة سبع ويعتمروا، وتسمى عمرة القضية.
فلما جاءوا في سنة سبع وكان المشركون بمكة لا يزالون معادين للمسلمين ولا يزالون يحقرونهم ويمقتونهم ويبغضونهم، فأرادوا أن يصغروا شأنهم عند جهلة أهل مكة حتى لا يقع في قلوبهم لهم شيء من الهيبة، فقالوا لسفهائهم: يقدم عليكم قوم قد وهنتهم حمى يثرب.
أي: أن محمداً وأصحابه يأتونكم وهم ضعاف هزيلون، مرضى، قد أضعفتهم حمى المدينة، وقد أوهنتهم، وقد أنهكت قواهم، فهم ضعاف فلا تهابوهم، ولا تخشوا منهم، ولا يكن في قلوبكم شيء من الهيبة لهم، ولا تخافوا من سطوتهم عند القتال.
هكذا أرادوا أن يحقروا شأنهم عند سفهائهم، فسمع بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فأراد أن يظهر قوة المسلمين، وأراد أن يبطل ما يظنه المشركون من ضعفهم ومن هزالهم ومن مرضهم، فأمر الصحابة أن يرملوا في الأشواط الثلاثة.
فالطواف بالبيت سبعة أشواط، فأمرهم أن يرملوا في الثلاثة الأول، أي: يسرعون فالرمل هو إسراع المشي مع مقاربة الخطا، وهز المنكبين، وهو دليل على الجلد ودليل على القوة ودليل على النشاط، والمشركون كانوا ينظرون إليهم من عند جبل قعيقعان الذي هو في شمال البيت، وكان في المكان الذي يعرف الآن بالشامية أو ما جاورها، كانوا جلوساً في ذلك المكان المرتفع ينظرون إلى الصحابة وهم يطوفون، فكانوا في مكان مرتفع، والبيوت التي بينهم وبين الكعبة منخفضة لا تحول بينهم وبين النظر إليهم، فلما رأوهم يطوفون وهم يرملون ذلك الرمل، ويسرعون ذلك الإسراع هابوهم، وقالوا: كيف تقولون: إن الحمى قد وهنتهم؟! ما هم إلا كالغزلان.
أي: في سرعتهم وفي قوتهم، فكان ذلك مضعفاً لما في قلوبهم من احتقار الصحابة واحتقار المسلمين، وموقعاً في قلوبهم هيبة الإسلام وهيبة المسلمين وتخوفيهم من سطوتهم.
وإذا كانوا بين الركنين مشوا؛ لأنهم في ذلك المكان يستخفون عن المشركين الذين هم في جهة الشمال، فيمشون بين الركنين اليمانيين، فإذا برزوا للمشركين بعدما يتجاوزون الحجر بدءوا في الرمل، وهكذا حتى تموا ثلاثة أشواط وهم يسرعون، ولم يمنعه أن يرملوا الأشواط السبعة إلا الإبقاء عليهم، أي: إلا الرفق بهم وترك المشقة؛ لأنهم لو استمروا السبعة الأشواط كلها في رمل لشق ذلك عليهم مع ما فيهم من كبر السن ومن جهد السفر ونحو ذلك.
وعلى كل حال فما قصد بذلك إلا غيض المشركين، وأصبحت هذه سنة، فأصبح كل من قدم إلى مكة أول ما يبدأ بالطواف يرمل الثلاثة الأشواط، وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة في حجة الوداع وابتدأ في طواف القدوم خب ثلاثة أشواط ومشى أربعاً، والخبب هو الرَمَل -أي: الإسراع-، وذلك ليعيد تلك الذكرى التي فعلها عندما قال أهل مكة ما قالوا، فنحن عندما نرمل نتذكر أولاً ما كان عليه المشركون من العداوة للمسلمين، ونتذكر -أيضاً- ما يظهره المسلمون من الجلد والقوة التي فيها إغاظة الكافرين، ونظهر -أيضاً- قوتنا ونشاطنا في هذه العبادة، لذلك أصبح كل من قدم مكة أول ما يطوف بالبيت يرمل ثلاثة أشواط.
وروي أن عمر رضي الله عنه لما كان في خلافته قال: ما لنا وللرمل! وما لنا بإبداء المناسك -يعني: الاضطباع- وقد أذهب الله المشركين وأذهب ما كنا نظهر لأجلهم! ثم قال: سنة فعلها النبي صلى الله عليه وسلم لا نتركها.
إذاً أصبح هذا من السنة، أي: الرمل أصبح سنة وإن كان قد انقضى سببه.