بقي الحديث الذي يتعلق بالتلبية، وقد عرفنا أن التلبية إجابة للنداء الذي أمر الله به خليله إبراهيم عليه السلام، فالحجاج والعمار إذا أقبلوا إلى مكة رفعوا أصواتهم بهذه التلبية.
ورفع الصوت بها سنة، وفي الحديث قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن جبريل أمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالإهلال) ، والإهلال: هو التلبية، وكل شيء فيه رفع للصوت فإنه يسمى إهلالاً، يقال: استهل بكذا، أي: ابتدأ به ورفع صوته.
ومنه سمي الهلال؛ لأن الناس إذا رأوه رفعوا أصواتهم عادة، وكذلك (استهل الصبي) أي: رفع صوته عندما يولد.
فالإهلال هو التلبية.
ورفع الصوت بها علامة على أنه محرم.
والإحرام في الأصل هو النية، أن تنوي بقلبك أنك دخلت في النسك، فإذا نويت بقلبك فهناك عليك أن تتجنب المحظورات، فتتجنب لبس المخيط كما فصلنا، وتتجنب تغطية الرأس، وتتجنب الطيب، وقص الشعر، وقص الأظفار، وقتل الصيد الذي حرمه الله على المحرم، وتتجنب النساء مباشرة أو تقبيلاً، وتتجنب الوطء، وتتجنب عقد النكاح إذا دخلت النسك عند ما تنوي بقلبك، وليس اللباس هو الإحرام، فلو لبست الإحرام وأنت في الرياض جاز لك ذلك ما دام أنك ما نويت، فإن لبست الإزار ولبست الرداء وركبت -مثلاً- السيارة جاز لك أن تطيب؛ لأنك ما أحرمت، إنما لبست، وليس اللباس هو الإحرام، وجاز لك -مثلاً- أن تنقص من أظفارك وأن تنقص من شعرك؛ لأنك ما نويت ولا أحرمت، فالإحرام هو النية والعزم بالقلب على الدخول في النسك.
والحاصل أن المحرم متى عزم بقلبه على أن يدخل في النسك فهو محرم، وهنالك يترك المحظورات، وهنالك يرفع صوته بالإهلال الذي هو علامة على هذا النسك حج أو عمرة.
والتلبية النبوية المشهورة: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك) ، كرر فيها قوله: (لا شريك لك) مرتين، وذلك رداً على تلبية الكفار، فالكفار كانوا يدخلون الشرك في تلبيتهم، فيقولون في تلبيتهم: لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قالوا: لبيك لا شريك لك يقول لهم: (قدقد) أي: قفوا، فلا تتجاوزوا ولا تفسدوا تلبيتكم، ولا تجعلوا فيها شركاً.
فلما كان في تلبيتهم هذه الكلمة الشركية كرر (لا شريك لك) مرتين ليحقق بذلك أن التلبية لله وحده، وأنه لا يجوز أن يشرك معه، وهكذا شرع هذه التلبية.
وإذا قلت: ما معنى هذه التلبية؟ نقول: إذا دعاك أبوك أو أخ لك أكبر منك أو عمك ونحو ذلك لبيت دعوته فقلت: لبيك يا أبتي لبيك يا أخي فهي علامة على استجابة وعلامة على إجابة الدعاء، ولا شك -أيضاً- أنها علامة على القبول، على تقبل ما يرشدك إليه وما يدعوك إليه، فإذا دعاك وقلت: (لبيك) فإنك تقول: إنني قابل لما قلته ملتزم به.
واشتقاقها من (لب بالمكان) إذا لصق به، ومنه سميت اللبابة التي في داخل اللباس (لبابة اللباس) لأنها ملاصقة له، فكذلك (لب بالمكان) أي: لصق به.
ولفظها لفظ المثنى (لبيك) ، فما قال: (لبك) ، ولكن (لبيك) يعني: مرتين، فلفظها لفظ المثنى، ولهذا يقول بعضهم: دعوت لما نابني مسوراً فلبى فلبي يدي مسور فجعلها بلفظ المثنى.
وليس المراد منها التثنية فقط، بل المراد التكرار، فإن قوله تعالى: {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} [الملك:4] ليس المراد به مرتان فقط، فإنه في مرتين لا ينقلب البصر خاسئاً وهو حسير، بل المراد تكرار النظر، فكذلك قوله: (لبيك) ليس المراد إجابتك مرتين، بل المراد تكرار الإجابة.
فالملبي كأنه يقول: أنا مقيم على طاعتك، وأنا ملازم لدعوتك، وأنا ملازم لأمرك مرات بعد مرات وكرات بعد كرات.
فهكذا يكون معنى هذه التلبية، إجابة الدعوة ولزومها والالتزام بالطاعة، والالتزام بالامتثال الذي أمر به، كأنه يجيب الدعوة، ويلتزم بما دعي إليه، وكأنه يقول: أنت -يا رب- دعوتني لأمر، فأنا قد أجبتك، وقد ألزمت نفسي، وقد التزمت بأن أتقيد بأمرك، وأنا مقيم على طاعتك مرة بعد مرة، وكرات بعد كرات، لا أتخلى عن طاعتك.
وإذا كان كذلك فإن الملبي يعرف أنه قد عاهد ربه على أن يلازم طاعته، وعلى أن لا يتخلى عنها في وقت من الأوقات.
إذاً فالتلبية كأنها عهد، وكأنها التزام، وكأنها مبايعة من الإنسان لله سبحانه وتعالى، إذا أتى لأداء هذا النسك، ورفع صوته بهذا الشعار، والتزم بما تعهد به، ورجع وهو على هذا الالتزام ولم يخل به، ولم يأت بما يناقضه، فبذلك يصير من الموفين بعهدهم إذا عاهدوا.
فهذه التلبية هي شعار للمتلبس بهذا النسك بحج أو عمرة، يكثر من هذه التلبية، ولا يقطعها إلا إذا شرع في رمي جمرة العقبة إن كان إحرامه لحج، أو إذا شرع في طواف العمرة إن كان إحرامه بعمرة، فيكررها، وتتأكد في عشرة أماكن، تتأكد إذا رقى على مرتفع، أو هبط في واد، أو ركب دابته، أو نزل منها، أو أقبل الليل، أو أقبل النهار، أو تلاقت الرفاق، أو سمع ملبياً، أو صلى مكتوبة، أو فعل محظوراً في عشرة مواضع تتأكد، وفي بقية الأماكن والأوقات تكون مشروعة مندوبة للإكثار منها، فالتلبية النبوية هي التي سمعنا، والزيادة عليها جائزة، فقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان يسمع أصحابه يزيدون ولا يغير عليهم ولا ينكر عليهم، فمنها زيادة ابن عمر في قوله: لبيك وسعديك، والخير بيديك، والشر ليس إليك، نحن عبادك الوافدون إليك، الراغبون فيما لديك.
وكذلك قوله: لبيك والرغباء إليك والعمل.
أو: لبيك إن العيش عيش الآخرة.
أو: لبيك حقاً حقاً تعبداً ورقاً، وكل هذا جائز؛ وذلك لأن فيه تعهداً من العبد بهذه الأعمال، وكذلك التزام بذلك، وكذلك -أيضاً- فيه وصف لله سبحانه وتعالى بما هو أهله من هذه الصفات؛ لأنه منه الخير، وإليه الخير، ومنه العطاء، وأن الشر ليس إليه، فإذا التزم الإنسان بمثل هذه رجي -إن شاء الله- أن تتقبل أنساكه وعباداته، وأن يحفظه الله تعالى في بقية حياته.