ذكر المؤلف أحاديث في الصيام عن الميت، قوله صلى الله عليه وسلم: (من مات وعليه صيام صام عنه وليه) .
وهذا الحديث متفق عليه، ولمَّا رواه أبو داود صرفه إلى أنه في النذر خاصة، ونقل ذلك عن الإمام أحمد، وقال: إن الولي لا يقضي عن الميت صيام الفرض، وإنما يقضي عنه صيام النفل.
والمسألة فيها خلاف في قضاء الصوم عن الميت، فهل يقضى عنه كل الصيام الفرض والنذر، أو لا يقضى عنه إلا النذر فقط؟ فذهب الإمام أحمد إلى أن القضاء خاص بالنذر؛ لرواية في بعض الأحاديث كما سيأتي، وذكر أن هناك حديثاً بلفظ: (لا يصلِ أحد عن أحد، ولا يصم أحد عن أحد) ، لكن هذا الحديث محمول على الأحياء، فلا يصوم أحد من الأحياء عن أحد، بمعنى أن تقول له: أفطر -يا أخي- وأنا أصوم عنك صيام الفرض -مثلاً- أو صيام القضاء أو: اترك الصلاة وأنا أصلي لك.
أو: صلاتي لك.
وذلك لأن هذه العبادات تعبد الله بها الإنسان نفسه، فهو مأمور بأن يفعل العبادة بنفسه، ولا يصح أن يوكل غيره في العبادات، والعبادات البدنية مقصود بها إظهار العبودية، فالصيام مقصود به التعبد لله بترك هذه الشهوات، والصلاة مقصود بها تعبد هذا البدن وهذا الجسد بالذل والخضوع لله بهذه الصلاة، فلا يصح أن يتعبد عنه غيره.
لكن استثني من ذلك الميت لهذه الأحاديث، فهذا الحديث عام: (من مات وعليه صيام صام عنه وليه) ، فالصحيح أنه عام يدخل فيه الفرض والنفل، فالفرض مثاله إذا أفطر لمرض أو لسفر ثم تمادى بعد أن انتهى رمضان فلم يصم، ثم أتاه الأجل فمات، فإنه -والحال هذه- يصوم عنه وليه.
وخص العلماء ذلك بما إذا كان متمكناً ولم يفعل، مثاله: إذا مرض في رمضان عشرة أيام، وبعدما خرج رمضان شفي وزال مرضه وصح جسمه وتمكن من الصيام واستطاع الصيام، ولكنه أفطر لا لعذر بل إهمالاً وتفريطاً، ثم بعد ذلك عاوده المرض ومات في ذلك المرض الثاني، فنقول: يصام عنه، وذلك لأنه فرط؛ حيث قدر على الصيام ولم يصم.
أما إذا لم يفرط فلا، وصورة ذلك: إذا مرض في رمضان وأفطر لهذا المرض، واستمر به مرضه بعد رمضان شهراً أو شهرين أو أشهراً وهو على فراشه لا يستطيع أن يصوم لمرضه الشديد الذي لا يتمكن معه من الصيام، فنقول: إذا مات وهو على هذه الحال فلا قضاء عليه ولا كفارة ولا إطعام، ولا قضاء على وليه، وذلك لأنه لم يجب عليه، إنما يجب عليه إذا تمكن، وهذا لم يتمكن، بل بقي على حالته حتى أتاه أجله، فلا يعد مفرطاً ولا مهملاً.
فعرفنا هنا الفرق بين من فرط ومن لم يفرط، فيقضى عن الذي فرط حيث تمكن ولم يفعل، ولا يقضى عن الذي لم يفرط بل استمر به المرض والعذر إلى أن مات، فهذا بالنسبة للقضاء.
وهذا إذا جعلنا القضاء عامّاً عن الفرض والنفل، بمعنى أنه يصوم عنه وليه أيامه التي من رمضان، ويصوم عنه أيامه التي نذرها.
أما النفل -الذي هو نفل مطلق- فالصحيح أنه يجوز أن يصوم يوماً أو أياماً ويهدي ثوابها لأبيه الميت، أو لأمه، أو لقريبه الميت، ويصل إليه الثواب إن شاء الله.
وقد ذهب الإمام أحمد -كما عرفنا- إلى أن القضاء خاص بصيام النذر، وصورة ذلك أن يقول -مثلاً-: إن ولد لي ولد في هذا الشهر فلله عليه أن أصوم شهراً، أو أصوم عشرة أيام أو أسبوعاً.
أو يقول: إن شفيت من هذا المرض فلله علي أن أصوم شهراً.
أو يقول: إن شفي مريضي.
أو: إن قدم غائبي سالماً.
أو: إن قدمت تجارتي سالمة.
أو: إن ربحت في هذه التجارة كذا وكذا فلله عليه أن أصوم كذاوكذا يوماً.
فحصل الشخص، أو ربحت تجارته أو قدمت، أو شفي مريضه، أو شفي هو، أو نجح في أمره، أو حصل الذي شرط ولكنه مات قبل أن يصوم ففي هذه الحال يصوم عنه وليه كما يقضي عنه بقية النذور، فإذا نذر صدقة، أو نذر حجاً، أو نذر اعتكافاً أو نحو ذلك فإنه يقضيه عنه وليه، فكذلك الصيام إذا نذر الصوم ولم يصم حتى مات فإن عليه أن يصوم وليه.
أما الفرض فعند الإمام أحمد أنه لا يقضيه، ولكن يتصدق عنه، فيخرج من تركته بقدر ما عليه من أيام رمضان عن كل يوم نصف صاع، فإذا كان عليه عشرة أيام تصدق من تركته بخمسة آصع من البر أو من الأرز عن كل يوم طعام مسكين، هكذا قال الإمام أحمد، فيقول: يطعم عن الفرض كرمضان، ويقضى النذر.
وأما أكثر الأئمة فيقولون: لا فرق بينهما، بل يقضى الجميع، فالنذر والفرض كلاهما يقضى، يقضيه أحد أقاربه لهذا الحديث: (من مات وعليه صيام صام عنه وليه) .