الحديث الذي بعده يتعلق بفضل التبكير إلى صلاة الجمعة، وقد تقدم لنا حكم الاغتسال، وذكرنا أن الراجح: أنه واجب على من هو بعيد العهد بالنظافة، متسخ البدن أو الثياب أو نحو ذلك؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (غسل الجمعة واجب على كل محتلم) وأما إذا كان نظيفاً وحديث عهد بنظافة وليس في بدنه شيء من الوسخ ولا من الروائح المستكرهة؛ فإنه يكون مستحباً في حقه.
قوله صلى الله عليه وسلم: (من راح في الساعة الأولى ومن راح في الساعة الثانية ومن راح في الساعة الثالثة) إلخ، يدل على فضل التقدم، وأن الإنسان كلما أسرع وتقدم فإنه له أجر أكبر.
و (التقرب) هو: التصدُّق، والقربان هو: ما يُتَقَرب بلحمه، والقرابين هي: التي تُقرَّب إلى الله تعالى، قال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً} [المائدة:27] يعني: تقربا به إلى الله تعالى، فالقرابين هي: الذبائح التي تذبح للتقرب بها إلى الله تعالى، ومنه تسمى الأضاحي قرابين، كما في قول ابن القيم: ولأجل ذا ضحى بجعد خالد القـ ـسري يوم ذبائح القربانِ شكرَ الضحيةَ كلُّ صاحب سنةٍ لله درك من أخي قربانِ فالقربان هو: الأضاحي والهدايا ونحوها، وسميت بذلك لكونها تقرب إلى الله تعالى.
وهذا التقريب معنوي في قوله: (فكأنما قرب بدنة فكأنما قرب بقرة فكأنما قرب كبشاً أقرن) والبدنة هي: الواحدة من الإبل، والبقرة معروفة، والكبش هو ذكر الضأن، والدجاجة والبيضة معروفتان، والمعنى: كأنه تصدق بها قرباناً، وهذا دليل على فضل التبكير.
وبين كل واحد والآخر ساعة، (في الساعة الأولى في الساعة الثانية) والساعة هي الساعة الزمنية؛ لأنها معروفة قديماً، وهذه الساعة التي هي ستون دقيقة هي: الساعة الزمنية.
ورد في حديث في سنن ابن ماجة وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يوم الجمعة -يعني: النهار غالباً- اثنا عشر ساعة، منها ساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله فيها إلا أعطاه) ، فجعل النهار اثني عشرة ساعة، يعني: النهار المتوسط: اثنا عشرة، والليل: اثنا عشرة، فدل على أن المراد بالساعة هي: الساعة الزمنية، فمعناه: أن الذي يذهب في الساعة الأولى بينه وبين الذي يذهب في الساعة الثانية ستون دقيقة، وهكذا.
ومعنى هذا: أنه يذهب مبكراً في أول النهار، والذي يريد أن يكون متقرباً ببدنة، هو الذي يذهب في أول النهار، وكانت الساعة في ذلك الوقت بالتوقيت الغروبي، فكانت الساعة الأولى بعد طلوع الشمس وانتشارها بقليل، فتبدأ الساعة الأولى وتستمر إلى الساعة الثانية، والأذان والخطبة غالباً يكونان في الساعة السادسة إلى عهد قريب.
قبل عشرين سنة أو نحوها كان التوقيت بالتوقيت العربي الذي يبدأ من غروب الشمس في كل البلاد، ويبدأ أيضاً من طلوع الشمس أو نحوها، وإذا كان الليل اثني عشرة ساعة من الغروب إلى الطلوع، والنهار اثنا عشر من الطلوع إلى الغروب فتكون الصلاة أداؤها قريب الساعة السادسة أو نحوها.
فالنبي عليه الصلاة والسلام حث على التبكير، وحثنا على أن نتقدم وأن نحظى بهذا الأجر، ونحرص أن نكون الذي يذهب في الساعة الأولى وكأنه قرب بدنة، ولا نكون مثل الذي يذهب في الساعة الخامسة وكأنه قرب بيضة، ما قيمة هذه البيضة التي يتصدق بها؟! وماذا تغني؟ ما هذا إلَّا شيء يسير لا أهمية له ولا قيمة له، فيفوته خير كثير، ولو تقدم ساعة أو ساعتين أو ثلاثاً لحصل على هذا الأجر الكبير.
فعلى الإنسان ألَّا يزهد في هذا الخير، لا سيما إذا كان عنده وقت فراغ، وعنده سعة وقت، فعليه أن يتقدم، فإنه في تقدمه يشتغل بالأذكار في جلوسه، أو القرآن، أو يستمع لقارئ، أو يصلي ما كُتب له، ولو صلى عشر ركعات، ولو صلى عشرين ركعة، ولو أطال الصلاة أو خففها، فيتقرب بالصلاة والذكر، ويشتغل بالقرآن، ويشتغل بالعلم، وينصت لكلام الله، ولو سكت ولم يتكلم ولم يقرأ لَكُتب في صلاة حيث إن الصلاة هي التي تحبسه، فإنه في صلاة ما دامت الصلاة تحبسه، والملائكة تستغفر له تقول: (اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، ما دام في مصلاه) ، وما دام لا يمنعه أن ينصرف إلا انتظار الصلاة.
فما أعظم ذلك من فائدة! وما أكثر الأجر الذي يترتب على ذلك! وما أعظم زهد الناس في ذلك! فأنت تأتي المسجد الجامع قبل أن يؤذن الأذان الأخير بعشر دقائق، فلا تجد فيه إلا صفاً أو صفين، أو ربما أقل من ذلك، ولا يأتي أكثرهم إلا بعد سماع الأذان الأخير الذي هو أذان الخطبة، فتفوتهم هذه الخيرات التي هي هذه القربات، فيفوتهم أجر انتظار الصلاة بعد الصلاة، ويفوتهم استغفار الملائكة لهم، وإذا ما حصلوا هذه الخيرات فما الذي حصلوا عليه؟! ماذا حصلوا عليه من جلوسهم؟! جلوسُهم غالباً إما على فرش مضطجعين عليها وليس لهم شغل، وإما مع أطفال يلعبون معهم، وإما على لهو أو نظرٍ إلى ملاهٍ أو آلات لهوٍ أو نحو ذلك، وإما مع مجموعة يتكلمون في فلان أو علان، ويخوضون في قيل وقال وما لا فائدة فيه، وما علموا قدر ما فاتهم، وما علموا أن هذا الذي فوَّتوه لا يُقْدَر قَدْرُه.
فالنبي عليه الصلاة والسلام حثنا على أن نتقرب بالقربات المعنوية التي هي الصدقات المعنوية، والصدقات الحسية فيها أجر، فلو أن الإنسان -مثلاً- رأى حاجة بالناس وشدة جوع، وذبح كل أسبوع بدنة وتصدق بلحمها، لكَثُر الذين يدعون له، وصاروا يترحمون عليه، ويأكلون ويدعون له بأن يتقبل الله منه، أو -مثلاً- تصدق بلحم بقرة وأعطى ذوي الحاجة ونحوها كل أسبوع لكان ذلك خيراً كثيراً، فهذا يحصل له بمجرد أن يتقدم هذه الساعات، ويتقدم هذا الزمان، ويجلس ينتظر الصلاة، ويترك الأشغال، ويشتغل بعبادة الله تعالى، ويترك اللهو والسهو.
وذَكر في هذا الحديث أنه إذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر، ورد في بعض الآثار وفي بعض الأحاديث: (أن الملائكة يقفون على أبواب المساجد يوم الجمعة يكتبون الأول فالأول -الأول فلان، الثاني فلان- حتى إذا قام الإمام وخرج للخطبة طوَوا صحفهم وجلسوا يستمعون الذكر) ، فمعناه: أن الذين يأتون بعد الأذان لا يُكتبون في تلك الصحف، وتفوتهم هذه الكتابة التي هي كشاهد على أنهم تقدموا أو على أنهم من أهل الصلاة الذين جاءوا راغبين فيها.
صحيحٌ أنه يُحكم بأن الجمعة ابتُدئ في فعلها: من وقت الأذان، ولأجل ذلك يحرم الاشتغال بالأمور الدنيوية بعد الأذان، ولا يجوز البيع ولا الشراء ولا الحرف ولا الأشغال الدنيوية بعد سماع الأذان الأخير، بل كلها تلغى لقوله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة:9] ؛ ولكن التقدم فيه خير، والتقدم إلى المسجد والاشتغال بالقربات فيه أجر وخير كبير، يفوت هؤلاء الذين يجلسون ويشتغلون بأمورهم الدنيوية، هذا يتعلق بالتبكير ونحوه.