قال المصنف رحمنا الله تعالى وإياه: [عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية إلى نجد، فخرجت فيها، فأصبنا إبلاً وغنماً، فبلغت سهماننا اثني عشر بعيراً، ونفلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعيراً بعيراً) .
وعنه رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا جمع الله الأولين والآخرين يرفع لكل غادر لواء، فيقال: هذه غدرة فلان بن فلان) ] .
حديث ابن عمر فيه قصة هذه السرية التي أرسلها النبي صلى الله عليه وسلم إلى نجد، والتي غنمت هذه الغنائم من إبل وغنم والسرية: قطعة من الجيش، تنطلق منه إلى بعض الأعداء الذين ليسوا في طريق الجيش، فتغير عليهم وتقتل منهم وتغنم، وترجع إلى الجيش، فيمكن أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في غزوة من غزواته، إما في غزوة حنين أو في غيرها من الغزوات، كان متوجهاً إلى جهة، فذُكر له أن بعض المشركين في أحد جوانب البلاد، فاختار لها سرية؛ لأنهم قليل لا يستحقون أن يذهب إليهم الجيش كله، والجيش قد يكون -مثلاً- عشرة آلاف وهم لا يحتاجون إلا إلى مائتين أو ثلاثمائة أو أربعمائة فارس أو راجل، فأرسل تلك السرية، وفيها عبد الله بن عمر، فذهب رضي الله عنه معهم فقاتلوا أولئك المشركين، وأصابوا هذه الغنائم، وهي غنائم كثيرة، كانت أغناماً وإبلاً، فجاءوا بها يسوقونها، فقسمها النبي صلى الله عليه وسلم بين الجميع، أي: بين الجيش والسرية، ولم يجعلها للسرية وحدها؛ وذلك لأن السرية تتقوى بالجيش، والجيش يتقوى بها، فإذا غنمت السرية فإن الجيش يشاركها فيما غنمت، وإذا غنم الجيش بعد السرية شيئاً فإن السرية تشاركه فيما غنم؛ لأنهم جميعاً غزاة في جهة واحدة، فهم سواء فيما غنموه، إلا أن أصحاب السرية ينفلون؛ وذلك لأنها تتعرض للخطر، ولأنها غالباً تسير ليلها وتكمن نهارها، ويصيبها شيء من التعب والكلل والملل والمشقة، فلذلك يُحتاج إلى تنشيطها بأن تُنفل شيئاً مما غنمت.
وذكروا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينفل في ذهابه الربع بعد الخمس، وفي رجعته الثلث بعد الخمس، ومعنى ذلك أنه إذا كان خارجاً في بدايته يعني: في خروجه من المدينة متوجهاً إلى العدو، وأرسل سرية يغيرون من هنا أو من هناك، قال لهم: اذهبوا إلى البئر الفلانية أو إلى البلد الفلانية، وإذا غنمتم شيئاً فأخرجوا منه الخمس، وخذوا الربع لكم، والباقي بيننا وبينكم، فهذا الربع الذي يأخذونه يُسمى نفلاً، أي: زيادة، وكذلك إذا انتهوا ورجعوا إلى بلادهم، فمعلوم أنهم في ذلك الوقت يكونون مشتاقين إلى أهليهم، وقد يكون معهم شيء من التعب والملل والكسل؛ فلأجل ذلك هم بحاجة إلى أن يُزاد لهم، فإذا بعثهم يقول لهم: أغيروا على القوم الفلانيين، على بني فلان أو على أهل البلد الفلانية، وإذا غنمتم فلكم الثلث بعد الخمس، والباقي بيننا وبينكم، هكذا كان ينفل.
فهذه السرية التي فيها ابن عمر غنموا غنائم كثيرة، ولما قسمت أخرج منها الخمس الذي هو سهم لله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، وبعد إخراج الخمس أخرج الربع لهذه السرية وحدها، وبعد ذلك قسم الباقي على الغانمين الذين غنموا، وعلى الجيش الذين هم قوة الغانمين، فبلغت سهمانهم اثني عشر بعيراً، هذا سهمانهم عموماً، كل منهم له اثنا عشر بعيراً.
وأما النفل فلكل واحد منهم بعير، والبعير: اسم للواحد من الإبل، فالناقة تُسمى بعيراً، والجمل يُسمى بعيراً، فأعطى كل واحد اثني عشر من الإبل من الذكور والإناث، هكذا قسمت، وذكر بعض الذين شرحوا الحديث أنها سرية لم يخرج فيها النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما أرسلهم قبل نجد، وأنهم غنموا، وأن الغنائم صارت لهم إلا الخمس، وأن هذا النفل كان من الخمس، يعني: أعطوا من الخمس بقدرهم، فكان لكل منهم بعير زيادة على سهمه.
وبكل حال: فهذا الحديث دليل على جواز النفل، ودليل على جواز إرسال السرايا.
كان النبي صلى الله عليه وسلم تارة يرسل السرايا من المدينة يقاتلون ثم يرجعون، ويُسمون سرية؛ لأنهم يسيرون ليلاً طويلاً حتى يصلوا إلى قرب العدو، فيقاتلون ثم يغنمون ويرجعون.
وتارة يفصل قطعة من الجيش ويرسلهم، ويسمون أيضاً: سرية، فالسرية تقع على قطعة من الجيش أو مجموعة يخرجون من البلد، يغيرون على الأعداء فيقاتلونهم حتى يغنموا منهم ما يغنموا، ولا شك أن هذا دليل على حرص النبي صلى الله عليه وسلم على إرسال المقاتلين إلى بلاد المشركين؛ حتى يطهر البلاد وينقيها من المشركين، ويُظِهر الإسلام، وما زال كذلك حتى أظهر الله الإسلام ونصره، ودان الناس بدين الله سبحانه وتعالى، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، ومع ذلك لم يكن قصده ولا قصد صحابته ما يحصل لهم من هذا المغنم، ولكن كان قصدهم الأساسي هو القتال في سبيل الله، أي: قتال المشركين حتى يدخلوا في الإسلام؛ وذلك لأن المشركين إذا هزموا وسلبوا أموالهم وذراريهم شعروا بذل وبضعف، وشعروا بأن الإسلام هو القوي، وأن المسلمين دائماً هم المنتصرون، فيكون ذلك سبباً في إقبالهم على الإسلام، وديانتهم به، ودخولهم فيه، كما حصل ذلك لكثير من المشركين الذين هزموا، ثم بعد ذلك دخلوا في الإسلام ودانوا به، كما حصل لقبيلة هوازن الذين قاتلهم النبي صلى الله عليه وسلم وهزمهم، ثم حصل أنهم بعد ذلك رجعوا إلى الإسلام.