قال المصنف رحمه الله تعالى: [ومن قول أهل السنة والجماعة في أكساب العباد أنها مخلوقة لله تعالى، لا يمترون فيه، ولا يعدون من أهل الهدى ودين الحق من ينكر هذا القول وينفيه].
هذه المسألة راجعة إلى القول في مقادير العباد بما فيها أكساب العباد، وأكساب العباد جزء من مقاديره، والمقصود بأكساب العباد أفعالهم التي يفعلونها؛ فإنها تسمى أكساباً؛ لأنهم يفعلونها بما أعطاهم الله عز وجل من القدرة والإرادة.
وهذه المسألة في الحقيقة من دقائق مسائل القدر التي خاض فيها المتكلمون خوضاً موّهوا فيه على كثير من الناس ولبّسوا فيه، وخرجوا عن قول السلف، وأدخلوا فيها مسألة الكسب، أي: أفعال العباد، فأهل السنة والجماعة يقولون: إن أفعال المكلفين المختارين الاختيارية هي مخلوقة لله عز وجل، فالله عز وجل علم أفعال العباد وكتبها وشاءها وقدرها سبحانه في سابق علمه، ثم إنه هو الخالق لها، لكنه أقدرهم عليها، فعلى هذا يكون محل الخلاف هو أفعال العباد الاختيارية التي تحدث من طرف المكلفين، وعلى هذا تخرج أفعال العباد غير الاختيارية؛ لأنها بإجماع لا تكون إلا تحت إرادة الله الكونية، ولا تسمى أفعالاً لهم، لكنها تحدث فيهم، فحركة القلب وحركة الدم وجميع الحركات التي تسمى عند الناس اللاإرادية في الإنسان هذه داخلة في تقدير الله الكوني، وليست هي محل الخلاف، محل الخلاف هو أفعال العباد الاختيارية من المكلفين الذين عندهم تمييز وعقل، وإلا فأفعال الأطفال وأفعال المجانين وأفعال المخرّفين وأفعال غير المميزين لا تدخل في الخلاف، وإنما حصل الخلاف هنا في أفعال العباد المكلّفين الذين عندهم قدرة، وفيما يدخل تحت نطاق قدرتهم، هذا هو محل الخلاف، وهذا يسمى أكساب العباد أو كسب العباد، فأهل السنة والجماعة قالوا بالحق الذي تقتضيه النصوص، وردوا متشابه النصوص في هذه الأمور إلى المحكم، فأيقنوا بموجب قطعيات النصوص أن الله عز وجل هو المقدر لأفعال العباد الاختيارية، وأنه خالقها، وأنه سبحانه علمها وكتبها وشاءها ثم خلقها، وأن ذلك لا يتنافى مع إقدارهم عليها، فإن الله عز وجل أقدرهم على فعل هذه الأمور، ولأنه عز وجل هو علّام الغيوب وهو عليم بذات الصدور علم ما العباد فاعلون، وقدّر مقاديرهم.
والخلاف في هذا كثير، لكن أهم من خالفهم متكلمة الأشاعرة والماتريدية، خاصة الأشاعرة فإنهم قالوا: إن أفعال العباد قدرها الله عز وجل بناء على عزمهم على الفعل، فإن الله لم يُوجد عندهم القدرة على كسب الأفعال إلا حين الفعل، ولم يخلق لهم القدرة لا قبل ولا بعد الفعل، ولم يكن عندهم استعداد ولا مقدرة على الفعل لا قبل ولا بعد، فلذلك صار عندهم نوع من الجبر، والشيخ هنا لم يكن يقصد الرد على هذا الصنف، لكن أنا أشرت إليه؛ لأن الأشاعرة هم الذين يستعملون كلمة الكسب والأكساب؛ فإنهم يرون أن أفعال العباد ليست من مقدورهم مع أنا نعلم أن الله عز وجل جعل أفعال العباد من خلقه، لكنه جعلها من مقدور العباد، فقالوا: إنها ليست من مقدورهم، بمعنى: أنه لم توجد عندهم القدرة على الأفعال لا قبل الأفعال ولا بعدها، إنما القدرة يصنعها الله عز وجل ويخلقها أثناء عزم الإنسان على الفعل، ويسمون هذا الكسب، لكن الذين أشار إليهم الشيخ هنا هم القدرية الخالصة، والتي تمثلت بالمعتزلة الذين زعموا أن أفعال العباد ليست من خلق الله عز وجل ولا من تقديره، إنما قالوا: إن الله عز وجل أوجد عندهم عموم القدرة، لكن مفردات الأفعال ليست من خلق الله، فهم يزعمون أن الله عز وجل جعل القدرة الكامنة هي الخالقة للفعل، أي: أنه أعطى الإنسان قدرة كامنة فيه، وهذه القدرة هي المتسببة في الفعل، وكثير منهم لم يصرّحوا بأن الإنسان خالق أفعاله، لكن هذا من لوازم قولهم؛ لأنهم قالوا: مقادير أفعال العباد الاختيارية ليست من تقدير الله، ولم يقدرها الله عز وجل، حتى إن بعضهم نفى العلم وقال بأن الله لم يعلمها حتى حدثت، لكن لما صودموا بقوة إنكار السلف قالوا: إنه علمها، فبقوا في الكتابة فبعضهم أنكر الكتابة وبعضهم تأولها وبعضهم أثبتها.
أيضاً ربما بعضهم أثبت المشيئة العامة لكنه نفى الخلق، وقال بأن الإنسان مقدر أفعاله، وأن الإنسان موجد أفعاله، فعلى هذا المعتزلة يرون أن أفعال العباد ليست مخلوقة لله عز وجل، ويزعمون أن ذلك لا يليق في حق الله عز وجل؛ لأنهم عندهم شبهة وهي أنهم يقولون بأنه لا يليق بأن الله عز وجل يخلق أفعال العباد ثم يحاسبهم عليها، خاصة أفعال الشر، فإذاً: بزعمهم لابد أن يكون العباد هم الموجدون لأفعالهم وهم المقدرون لها، وهذا القول هو الذي انتهت إليه المعتزلة؛ ولذلك ألزموا بأن يقولوا بأن هناك خالقاً مع الله عز وجل، فقيل لهم: إذا لم تكن أفعال العباد من تقدير الله عز وجل فلابد أن تكون من تقدير مقدر مع الله حتماً، وأنه يحدث في ملك الله ما لا يشاؤه ولا يريده، فلذلك ألزموا بأن يقولوا بأن الإنسان خالق أفعاله، ومنهم من التزم ذلك أو صرّح بأن الإنسان خالق أفعاله، لكن جمهور المعتزلة يتورعون عن أن يقولوا بأن الإنسا