الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال الإمام أبو عثمان الصابوني رحمه الله تعالى: [قلت وبالله التوفيق: أصحاب الحديث -حفظ الله أحياءهم ورحم أمواتهم- يشهدون لله تعالى بالوحدانية].
مما يحسن التنبيه له أن الشيخ دائماً في تعبيره عن أصحاب الحديث هو وغيره من أئمة السلف يقصدون بالسلف أهل السنة والجماعة، وعُبِّر عنهم بأصحاب الحديث لأنهم هم حملة الحديث دراية ورواية، ولأنهم أجدر الناس بالاستمساك بالسنة؛ ولأنهم هم الذين عنوا بسنة النبي صلى الله عليه وسلم من كل وجه بأصولها ومناهجها وقواعدها وتصحيحها وتضعيفها، وكل ما تعنيه الكلمة من حمل الحديث الذي تضمن الدين كله، وأصحاب الحديث لا يخرجهم هذا الوصف عن أن يكونوا أصحاب قرآن، بل أهل السنة والجماعة هم أهل القرآن والسنة، ويعبر عنهم بالفرقة الناجية، والسلف الصالح، والطائفة المنصورة، فمن أوصافهم أنهم أصحاب الحديث، كما أن من أوصافهم أنهم أهل السنة، وأنهم الجماعة، والفرقة الناجية، والطائفة المنصورة، والسلف الصالح ونحو ذلك.
فهذه كلها أوصاف حقيقية لأهل السنة والجماعة وليست من الأوصاف المتغايرة، بل كلها تعني أهل الحق والاستقامة أصحاب السنة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [أصحاب الحديث -حفظ الله تعالى أحياءهم ورحم أمواتهم- يشهدون لله تعالى بالوحدانية، وللرسول صلى الله عليه وسلم بالرسالة والنبوة، ويعرفون ربهم عز وجل بصفاته التي نطق بها وحيه وتنزيله، أو شهد له بها رسوله صلى الله عليه وسلم على ما وردت الأخبار الصحاح به، ونقلت العدول الثقات عنه، ويثبتون له جل جلاله ما أثبت لنفسه في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسم، ولا يعتقدون تشبيهاً لصفاته بصفات خلقه، فيقولون: إنه خلق آدم بيديه].
هذه قاعدة عند السلف أجمعوا عليها، وهي: إثبات ما أثبته الله لنفسه في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، ونفي ما نفاه الله عن نفسه أو نفاه عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يعتقدون التشبيه؛ نظراً لأن الإثبات مظنة التشبيه عند قاصري الفهم والفقه، فإن السلف لا يعتقدون التشبيه، ثم ضرب أمثلة لذلك.
[فيقولون: إنه خلق آدم بيديه، كما نص سبحانه عليه في قوله عز من قائل: {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75]، ولا يحرفون الكلم عن مواضعه بحمل اليدين على النعمتين أو القوتين، تحريف المعتزلة الجهمية أهلكهم الله].
والذين يقولون بهذا الآن هم الأشاعرة والماتريدية، فهم أخذوا هذه المقولة عن الجهمية، ولذلك متأخرو السلف لا يفرقون بين الأشاعرة والماتريدية والجهمية، بل يصفونهم جميعاً بأنهم جهمية، وذلك راجع إلى أنهم أخذوا أصول الجهمية في الصفات وقالوا بها تماماً، حتى إن الأشاعرة لا يثبتون إلا سبع صفات، ومذهبهم هذا قريب جداً بل هو نسخة جديدة لمذهب الجهمية، فالجهمية الذين ثار عليهم السلف وذموهم وحذروا منهم كان هذا مذهبهم: تأويل الصفات؛ لأن الجهمية مرت بمراحل: المرحلة الأولى في القرن الثاني أو أغلب القرن الثاني: كانت تُنكر الصفات إنكاراً بالكلية، لكنها في القرن الثالث ومع كثرة المحاورات بينها وبين السلف، ومع وجود الكتب والآثار والمصنفات التي كتبها أئمة الإسلام لطّفوا المذهب فقالوا بالتأويل، وأول من اشتهر عنه التأويل بشر المريسي، فهذا المريسي أوّل الصفات تأويلاً ولم ينكرها كما أنكرتها الجهمية الأوائل، ومع ذلك عد مذهبه امتداداً للجهمية، وهو جهمي جلد، ولذلك فإن منهجه هذا أخطر على المسلمين من مناهج السابقين؛ فالسابقون الذين ينكرون الأسماء والصفات بالكلية أو ينكرون الصفات كالمعتزلة كان الناس ينفرون من مذاهبهم؛ لأنها مذاهب مصادمة للعقل السليم والفطرة والنصوص مصادمة تامة، لكن حينما جاء هذا الرجل الخبيث بشر المريسي ترك التعطيل الذي هو الإنكار وبدأ يؤوّل، وكتب في ذلك مصنفات في تأويل الصفات، ومر على الصفات في القرآن وعلى الصفات في السنة فكان إما أن يؤوّل وإما أن يرد النصوص، وخاصة الأحاديث، ثم هذا التأويل انتقل من الجهمية إلى بعض المنتسبة للمذاهب مثل ابن شجاع الثلجي الحنفي، فقد أخذ مذهب المريسي وقال به، ونسب مصنفه إلى نفسه، ثم انتقل هذا إلى الأحناف، ثم صار من أصول الأشاعرة والماتريدية بعد ذلك، وأوائل الأشاعرة والماتريدية لم يكونوا يتعرضون للصفات، إلا بعض الصفات الفعلية، فإنهم أنكروا أنها تتعلق بمشيئة الله عز وجل متابعة لـ ابن كلاب، حتى جاء القرن السادس والسابع والثامن فانتقلت أصول الجهمية المتأخرة إلى الأشاعرة والماتريدية، وتولى نشرها وتبناها أولاً أبو المعالي الجويني قبل رجعته إلى مذهب أهل السنة والجماعة، ثم الرازي، والرازي قعّد لها وأسسها كما كان يفعل المريسي