قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال سفيان بن عيينة: كل ما وصف الله به نفسه في كتابه فتفسيره تلاوته والسكوت عنه].
هذه أيضاً قاعدة، ويقصد بتفسيره تلاوته، بمعنى: أن كل ما وصف الله به نفسه في كتابه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم في ذاته وأسمائه وأفعاله وصفاته فتفسيره تلاوته، بمعنى: أنه حق، وليس تلاوته على معنى أنها عبارات جوفاء، بل تلاوته بمعنى أنه كلام الله، فيتلى لأنه حق على حقيقته، ولا نبحث عما وراء الألفاظ إذا كان البحث عما وراء الألفاظ يشكل، ولا نتعمق إلا بقدر ما تدركه مداركنا أو مدارك الناس، فبعض الناس لا يفهم من اللفظ إلا مجرد معناه المعنى المباشر، وبعض الناس قد يفهم المنطوق وما رآه من مفهوم.
فإذاً: ما وصف الله به نفسه تفسيره تلاوته، بمعنى: ألا يتعدى نطقه، وهذا يعتبر قاعدة في منع التأويل؛ لأنه إذا أول لم يكن تفسيره تلاوته، بل تكون تلاوته لها شكل، ومعناه له شكل آخر، وكذلك السكوت عنه، يعني: ليس المراد السكوت عن تحقيقه أو اعتقاده، لكن السكوت عن التنقيب والبحث فيما لا علم للإنسان به.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال الوليد بن مسلم: سألت الأوزاعي وسفيان ومالك بن أنس عن هذه الأحاديث في الصفات والرؤية فقالوا: أمروها كما جاءت بلا كيف.
قال الإمام الزهري إمام الأئمة في عصره وعين علماء الأمة في وقته: على الله البيان، وعلى الرسول صلى الله عليه وسلم البلاغ، وعلينا التسليم].
أيضاً هذه من قواعد السلف العظيمة، أما قوله: (أمروها كما جاءت بلا كيف) فالمقصود: أنها تمر كما جاءت على استصحاب الأصول، وقوله: (كما جاءت) أي: أنها جاءت على أنها حق وصدق، وأنها تعني معاني الكمال لله عز وجل، هذا معنى (كما جاءت)، وليس كما جاءت حروفاً فقط جوفاء، لذلك بعض المؤولة وبعض المفوضة فهموا من (كما جاءت) أنه ليس لها معانٍ؛ وهذا غلط عظيم؛ لأنها جاءت تعبر عن الكمال لله عز وجل، والكمال لله حقيقة، إذاً: هي ألفاظ تتضمن حقيقة، ومعنى: (أمروها كما جاءت) يعني: لا تؤولها، وليس بمعنى: لا تعتقدوا حقيقتها، وهذا هو المعنى المباشر الذي يدركه الإنسان بفطرته وحسه وبالمعنى اللغوي المباشر، فأمروها كما جاءت يعني: أنها جاءت لإحقاق الحق، جاءت على أنها بلسان عربي مبين، جاءت على أنها كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، جاءت على أنها تحكي العقيدة السليمة؛ هكذا جاءت، جاءت على أنها لا تحتاج إلى تأويل متكلف، ولا تحتاج إلى أن نصرفها عن معانيها إلى معانٍ متوهمة ومظنونة.
وكذلك نمرها بلا كيف؛ لأنها جاءت بلا تكييف، فلا داعي لأن نكيفها، وهذا هو المعنى الصحيح، لذلك أجد أن بعض طلاب العلم يتحرز أحياناً من هذه العبارة ويقول: هذه العبارة تؤيد المفوضة، وأقول: ليس بصحيح أبداً، بل هذا نوع من تعبير السلف الصحيح السليم، كما أنا نقول: إنها حق على حقيقتها -أي: ألفاظ كلام الله عز وجل- كذلك نقول: تمر أيضاً كما جاءت، فلا داعي أن يتردد طلاب العلم في هذه العبارة؛ لأنها أثرت عن كثير من السلف، وكونها اتخذت ذريعة للتفويض فهذا لا يعني أنها لا تفسر تفسيراً صحيحاً، أو أننا نتهرب من إثباتها واعتقاد حقيقتها، فهي كلمة جيدة وقاعدة عظيمة.
وكذلك قوله: (على الله البيان، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم)، كذلك هذه تتضمن قواعد عظيمة جداً، وتعتبر من القواعد المثبتة للسنة في بداية نوازع الفرق والأهواء والبدع في وقت الزهري، ففي وقت الزهري ظهرت فرق كثيرة منها: القدرية، ومنها: المرجئة، ومنها: أوائل الجهمية وأوائل المعتزلة؛ لأن الزهري توفي سنة (125هـ) فـ الزهري توفي في بداية ظهور الفرق، فكان كلامه هذا عبارة عن تقعيد عظيم لقواعد ذهبية، لو جمعت هذه القواعد مع بعض قواعد السلف في كتاب مستقل ونظمت ورتبت وبوبت لكانت كافية عن التكلف في البحث عن أصول الرد عن أهل الأهواء.
يقول: (على الله البيان)، معناه: أن الله عز وجل بين، بمعنى: أن كلامه بين في أسمائه وصفاته وأفعاله، وفي جميع قواعد الشرع، بين لا يحتاج إلى تأويل بين لا يحتاج إلى تفويض بين لا يحتاج إلى توقف بين لا يحتاج إلى تكييف.
وقوله: (وعلى الرسول البلاغ) معناه: أن الرسول صلى الله عليه وسلم بلغ كما أمره ربه، فلذلك يجب على المسلم ألا يستشكل من ألفاظ أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم كما استشكل أهل البدع، فأهل البدع الآن لا يطيقون أحاديث الصفات، وهذا قدح في بيان النبي صلى الله عليه وسلم، فنراهم إلى اليوم كثير منهم لا يطيق ذكر أحاديث الصفات خاصة؛ لأنهم يرون أنها تعني التجسيم وتعني التشبيه، وأن سياقها وذكرها فيه حرج، وكما قال الرازي مقعداً لهم: إن الرواة رووا بالمعنى فلذلك قالوا: ما لم يقله النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه شبهات كبار هوادم للدين، بل هذه معاول، والنبي صلى الله عليه