قال المصنف رحمه الله تعالى: [وعن جرير بن عبد الله في الرؤية، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنكم تنظرون إلى ربكم كما تنظرون إلى القمر ليلة البدر)، فقال له رجل في مجلسه: يا أبا خالد! ما معنى هذا الحديث؟ فغضب وحرد، وقال: ما أشبهك بـ صبيغ! وأحوجك إلى مثل ما فعل به! ويلك! ومن يدري كيف هذا؟ ومن يجوز له أن يجاوز هذا القول الذي جاء به الحديث، أو يتكلم فيه بشيء من تلقاء نفسه إلا من سفه نفسه واستخف بدينه، إذا سمعتم الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتبعوه، ولا تبتدعوا فيه، فإنكم إن اتبعتموه ولم تماروا فيه سلمتم، وإن لم تفعلوا هلكتم.
وقصة صبيغ الذي قال يزيد بن هارون للسائل: ما أشبهك بـ صبيغ وأحوجك إلى مثل ما فعل به! هي: ما رواه يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب: (أن صبيغاً التميمي أتى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: يا أمير المؤمنين! أخبرني عن {الذَّارِيَاتِ ذَرْوًا} [الذاريات:1]، قال: هي الرياح، ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله ما قلته، قال: فأخبرني عن {الْحَامِلاتِ وِقْرًا} [الذاريات:2]، قال: هي السحاب، ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله ما قلته، قال: فأخبرني عن {الْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا} [الذاريات:4] قال: الملائكة، ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله ما قلته، قال: فأخبرني عن {الْجَارِيَاتِ يُسْرًا} [الذاريات:3] قال: هي السفن، ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله ما قلته، قال: ثم أمر به فضرب مائة سوط، ثم جعله في بيت حتى إذا برأ دعا به، ثم ضربه مائة سوط أخرى، ثم حمله على قتب، وكتب إلى أبي موسى الأشعري: أن حرم عليه مجالسة الناس، فلم يزل كذلك حتى أتى أبا موسى الأشعري، فحلف له بالأيمان المغلظة ما يجد في نفسه مما كان يجده شيئاً، فكتب إلى عمر بخبره، فكتب إليه: ما إخاله إلا قد صدق، خل بينه وبين مجالسة الناس)].
مثل هذا الإجراء من عمر رضي الله عنه أفاد الأمة وأدب الناس دهراً طويلاً، ولذلك تأخر القول بالقدر، مع أنه من النزعات التي تحدث في الأمم قبل غيرها، خاصة ضعاف العقول وضعاف الدين فإنهم ينزعون إلى التشكيك في القدر، ودخول المفسدين في الديانات من خلال القدر عادة يبدأ مبكراً، لكن هذا الموقف الحازم من عمر رضي الله عنه وما سبقه من تهديده لـ بطريق في الشام ونحو هذه الأمور التي كان عمر يدافع بها عن العقيدة هذا أجّل القول في القدر إلى ما بعد منتصف القرن الأول الهجري.
ثم إن هذه القصة وردت في سياقات كثيرة ولها أسانيد بعضها صحيح، وفي هذه القصة أن صبيغاً كان يسأل، ومجرد السؤال ليس فيه عيب، لكن كان صبيغ يثير هذه الإشكالات عند الجهال، وكان يكرر هذا الكلام بين الجهلة، كما جاء في سياق آخر في القصة، وكان ينهاه أهل العلم ولا ينتهي، ويثير هذه المسائل وغير هذه المسائل، والأمور الغيبية وأمور القدر كان يثير منها أشياء على سبيل المراء والجدل والتعنت والتعالي والغرور، فمحاورة عمر رضي الله عنه معه كانت أنموذجاً لما كان يحدث، وإلا لو كان جاء ليستفهم من عمر كما يستفهم طلاب العلم لما أدبه عمر على هذا النحو، لكن عمر رضي الله عنه عرف ما كان يحدث منه في أكثر من موقع وأكثر من مقام، كما هو معروف في القصة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وروى حماد بن زيد عن قطن بن كعب سمعت رجلاً من بني عجل يقال له: فلان -خلته ابن زرعة - يحدث عن أبيه قال: رأيت صبيغ بن عسل بالبصرة كأنه بعير أجرب، يجيء إلى الحلق، فكلما جلس إلى قوم لا يعرفونه ناداهم أهل الحلقة الأخرى: عزمة أمير المؤمنين.
وروى حماد بن زيد أيضاً عن يزيد بن أبي حازم عن سليمان بن يسار: أن رجلاً من بني تميم يقال له: صبيغ قدم المدينة، فكانت عنده كتب، فجعل يسأل عن متشابه القرآن، فبلغ ذلك عمر، فبعث إليه، وقد أعد له عراجين النخل، فلما دخل عليه جلس، فقال: من أنت؟ قال: أنا عبد الله صبيغ، قال: وأنا عبد الله عمر، ثم أهوى إليه فجعل يضربه بتلك العراجين، فما زال يضربه حتى شجه، فجعل الدم يسيل على وجهه، فقال: حسبك يا أمير المؤمنين، فقد والله ذهب الذي كنت أجد في رأسي].
هنا أحب أن نقف على بعض الفوائد: الفائدة الأولى: فيما يتعلق بمنهج السلف في الهجر