الخلاصة: أنه هنا أراد أن يقرر العلو مقترناً بالاستواء والاستواء مقترناً بالعلو وهما متشابهان، وقد ذكر الأئمة أدلة العلو الصريحة ونوجزها الآن؛ لأنه هنا انتهى من مسألة الاستدلال على العلو والعرش، وسيدخل في موضوع جديد نجعله للدرس القادم، لكن أحب أن أوجز كلام السلف في أدلة العلو التي هي محكمة وقوية وذكرها أكثر من واحد من الأئمة، ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية في أكثر من موضع، وابن القيم في رده على الجهمية في الصواعق وفي غيره، وكذلك لخص هذا الرد ابن أبي العز في (شرح العقيدة الطحاوية)، فتتلخص أدلة إثبات العلو والاستواء -خاصة العلو الذاتي لله عز وجل- بما يلي: أولاً: التصريح بالفوقية لله عز وجل، فقد ورد التصريح بأن الله فوق عباده، كقوله عز وجل: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام:18]، وقوله سبحانه وتعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل:50]، فهذا تصريح بالفوقية لله عز وجل، وأصحاب التأويل يقولون: إن الفوقية تشعر بالجهة، فيقال لهم: ما الجهة التي تهربون منها؟ سيقولون: الفوق والعلو، فهربوا من إثبات الحق ووقعوا فيما وقعت فيه الفلاسفة الملاحدة الذين ينكرون أن يكون لله وجود ذاتي.
وكذلك من أقوى أدلة العلو: ثبوت النزول، سواء نزول الباري عز وجل أو نزول الأشياء منه، فقد أنزل الله القرآن وتنزل الملائكة من عنده، والنزول ثابت بنصوص قطعية، خاصة أحاديث النزول لله عز وجل على ما يليق بجلاله، وخاصة النزول الذي ثبت له في الثلث الأخير من كل ليلة، كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ينزل ربنا في الثلث الأخير من كل ليلة) ونزوله عز وجل عشية يوم عرفة أو يوم عرفة يباهي بالحجاج ملائكته، فهذا النزول ثبت في مقتضى النص الصحيح الصريح الذي لا يمكن دفعه، ولكن على ما يليق بجلال الله عز وجل، ونحن نعلم قطعاً أن النزول لا يلزم منه إخلاء العرش، ولا يلزم منه ما يلزم عند المخلوقات من نوع الحركة ونوع الانتقال، وإلا فالله عز وجل لابد أن يثبت له ما أثبته لنفسه.
فالنزول دليل على إثبات العلو والفوقية، وهو يتضمن معنى الاستواء.
ومن ذلك أيضاً: صعود الأشياء إليه، قال عز وجل: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر:10]، وكذلك رفع الأشياء إليه {وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10]، وكقوله عز وجل في حق عيسى: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء:158] فالرفع لا يكون إلا إلى أعلى، ولا يكون إلا لموجود له وجود ذاتي، وإلا فما معنى الرفع لو كان الوجود لله عز وجل -تعالى عما يزعمون- مجرد وجود ذهني مطلق، كما تقول الجهمية وتابعهم الأشاعرة ومن سلك سبيلهم؛ فإنهم قالوا: إن وجود الله عز وجل مجرد وجود عقلي أو مجرد وجود اعتباري أو علو اعتباري فقط، كما قالوا: إن العلو علو القدر، ولاشك أن لله عز وجل علو القدر على وجه الكمال، وكذلك علو الذات، ولو كان مجرد علو القدر لما كان هناك معنى لكل هذه النصوص التي تصرح بالفوقية والنزول والمجيء والصعود والرفع، لا يكون لها معنى وإنما تكون مجرد ألفاظ لا معنى لها.
وكذلك ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه في الدعاء إلى الله عز وجل، وتوجه القلوب الفطري إلى الله عز وجل توجه يجده حتى الكافر، بل حتى الحيوان نجده يشخص ببصره إلى العلو وإلى الفوقية، وهذا أمر فطري.
أيضاً: سؤال النبي صلى الله عليه وسلم الجارية وغير الجارية بكلمة: أين الله؟ هذا دليل قاطع على أن الله عز وجل له وجود لا يليق إلا أن يكون بالفوق والعلو، وأن وجود الله عز وجل مباين ومفاصل لوجود مخلوقاته، وأنه مستوٍ على عرشه، إضافة إلى أدلة الاستواء وغير ذلك، كل هذه الأمور أدلة صريحة قطعية تثبت لله العلو الذاتي بذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله مع علو القدر والقهر وعلو الاعتبار وعلو المعنى، وهذا لا شك فيه.
فالسلف حينما يثبتون شيئاً يثبتون لوازمه بالضرورة، فهذه أدلة قاطعة على العلو الذاتي لله عز وجل لا مفك منها، لكن أهل التأويل لا يستطيعون أن يأخذوا بها؛ لأنهم إذا أخذوا بها انهدمت قواعدهم كلها ورجعوا إلى قول أهل السنة، ولو أخذوا بأدلة العلو لزم أن يقولوا بالاستواء، وإذا قالوا بالاستواء لزمهم أن يقولوا بالمجيء والنزول ثم بقية صفات الله عز وجل، وكذلك العكس.
إذاً: أهل البدع والتأويل لو أثبتوا أي صفة لزمهم إثبات الباقي، فإن أثبتوا الاستواء لزمهم إثبات العلو والفوقية، وإن أثبتوا العلو والفوقية لزمهم الاستواء، وإذا أثبتوا الجميع لزمهم إثبات المجيء والنزول على ما يليق بجلال الله عز وجل وبقية الصفات، لكن لتسلم قواعدهم الباطلة عمموا الحكم، وهذا مصداق قول النبي صلى الله عليه وسلم عن أهل الأهواء: (تتجارى بهم الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه) نفوا شيئاً من الصفات فاضطرهم هذا النفي إلى نفي غيرها، ثم إلى نفي البا