قال ابن تيمية: وكنت أبين لهم أن ما نقل لهم عن السلف والأئمة من إطلاق القول بتكفير من يقول كذا وكذا، فهو أيضاً حق، لكن يجب التفريق بين الإطلاق والتعيين -وهو هذا الذي اختلف فيه السلف- أي: أن إطلاق القول بالكفر والتعيين بالكفر أمر يجب التفريق بينهما، فالقول مثل: (لئن قدر الله تعالى علي ليعذبني عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين)، فهذا القول في حد ذاته كفر باتفاق؛ لأنه شك في قدرة الله، بل الإمام أحمد بن حنبل لما سئل عن القدر قال: إن الله على كل شيء قدير، ففرق بين أن هذا القول كفر، وبين تكفير قائله.
ثم قال: وهذه أول مسألة من مسائل الأصول الكبار التي تنازعت فيها الأمة، أعني: مسألة الوعيد، فإن صفة الوعيد في القرآن مطلقة، كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء:10]، وهي بمنزلة من قال من السلف: من قال كذا فهو كذا، فإن هذه مطلقة عامة.
ثم إن الشخص المعين يلغى حكم الوعيد فيه بتوبة، أو حسنات ماحية، أو مصائب مكفرة، أو شفاعة مقبولة.
فهو يقول لك: إن القول قول كفر، لكن قائل هذا القول ربما يكون له حسنات ماحية، أو بلاء وأمراض ومصائب نزلت عليه، فكلها من مكفرات الذنوب، أو شفاعة مقبولة يوم القيامة، أو غير ذلك، والتكفير هو من الوعيد، فإنه وإن كان القول تكذيباً لما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن قد يكون الرجل حديث عهد بالإسلام -وهذا عذر- فلا يعلم أحكام الإسلام، فلا يكفر لجهله، أو لأنه نشأ في بادية بعيدة عن العلم والعلماء، كما هو معروف الآن، تذهب أي قرية أو أي بادية من البوادي فترى هناك بدعاً كثيرة جداً، فتقول: يا إخواني! هذه بدعة وهذه سنة، فيقولون: هذا الكلام أول مرة نسمعه، بل يقولون: هذا دين جديد، ليس لنا به سابق عهد! وهو ليس بدين جديد، وإنما هو نفس الدين الذي جاء به النبي عليه الصلاة والسلام، لكنهم بجهلهم وبعدهم عن مواطن العلم والنور والهدى تصوروا أنه دين جديد.
قال ابن تيمية: ومثل هذا لا يكفر بجحد ما يجحده حتى تقوم عليه الحجة، وقد يكون الرجل الذي يسمع تلك النصوص أو سمعها لم تثبت عنده، أو عارضها عنده معارض آخر أوجب تأويلها، وإن كان مخطئاً في هذا التأويل.
قال: وكنت دائماً أذكر الحديث الذي في الصحيحين، حديث الرجل الذي قال لبنيه: (إذا أنا مت فأحرقوني ثم اسحقوني)، وذكر الحديث، فهذا رجل شك في قدرة الله وإعادته إذا ذري في البر والبحر، بل اعتقد أنه لا يعاد، وهذا كفر باتفاق المسلمين، لكنه كان جاهلاً لا يعلم ذلك، وكان مؤمناً يخاف الله أن يعاقبه، فغفر الله له بذلك الإيمان؛ لأن الخشية هي من شعب الإيمان، والرجل كان في أصله مؤمناً، فالله تعالى غفر له بأصل الإيمان، وتجاوز عنه بصفة القدرة له سبحانه.
قال: والمتأول من أهل الاجتهاد الحريص على متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم أولى بالمغفرة من مثل هذا.
هذا كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في المجلد الثالث، وقال كذلك في المجلد الثاني عشر كلاماً طيباً، فهو يذكر كلاماً كالمقدمات في اسم المؤمن والكافر، ومن يصدق عليهم هذا الاسم.