قال: [حدثني إسحاق بن منصور -وهو المعروف بـ الكوسج البغدادي، تلميذ أحمد بن حنبل - أخبرنا عبد الصمد بن عبد الوارث، عن أبيه، حدث عن سعيد الجريري، عن أبي عثمان النهدي، عن حنظلة قال: (كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فوعظنا فذكر النار - أي: ذكرنا بالنار - قال: ثم جئت إلى البيت فضاحكت الصبيان ولاعبت المرأة، قال: فخرجت فلقيت أبا بكر فذكرت ذلك له، فقال: وأنا قد فعلت مثل ما تذكر، فلقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله! نافق حنظلة، فقال: مه -كلمة استنكار تقولها العرب، وكأن النبي يقول له: أنت لم تقع في النفاق- فحدثته بالحديث، فقال أبو بكر: وأنا قد فعلت مثل ما فعل، فقال: يا حنظلة! ساعة وساعة، ولو كانت قلوبكم كما تكون عند الذكر لصافحتكم الملائكة، حتى تسلم عليكم في الطرق)].
يعني: لو أن قلوبكم إذا ذكرت تذكرت كما لو تذكرت في مجلس الذكر، فلا يضركم أن تنشغلوا عن الذكر في غير مجالس الذكر، ولا يضركم أن تنشغلوا عن الذكر بمعافسة الزوجة والأولاد، وطلب المعاش وغير ذلك، لكن إذا لم تتأثر قلوبكم بالذكر والموعظة في مجلس الذكر، فتكون مصيباً إن اتهمت نفسك، أما لو كان قلبك يرق من الموعظة ويتأثر بكلام الله وبكلام الرسول عليه الصلاة والسلام، وذكر الجنة والنار، وغيرها من الأخبار، فإن هذا يدل على سلامة القلب، وعلى إيمان القلب.
أما أن تخرج بهذا الجو النفسي من مجلس الذكر، وتطالب قلبك بأن يصحبك في كل وقت بهذه الحالة، فإن هذا ليس في مقدور أحد، ولذلك لم يقدر عليه أفضل الأمة بعد النبي عليه الصلاة والسلام، وهو أبو بكر الصديق رضي الله عنه، والنبي عليه الصلاة والسلام قد بشر بأنه لو كان كذلك في مجلس الذكر دون غيره من بقية المجالس لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي الطرقات.
قال: [حدثنا زهير بن حرب، حدثنا الفضل بن دكين، حدثنا سفيان -وهو الثوري - عن سعيد الجريري عن أبي عثمان النهدي، عن حنظلة التميمي الأسيدي الكاتب -أي كاتب الوحي- قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فذكرنا الجنة والنار فذكر حديثهما].
قال الإمام النووي في قول حنظلة: (عافسنا)، معناه: حاولنا ذلك ومارسناه واشتغلنا به، أي: عالجنا معايشنا وحظوظنا -أي: طلبناها- والضيعات: جمع ضيعة، وهي معاش الرجل من مال، أو حرفة، أو صناعة.
وروى الخطابي هذا الحرف (عانسنا) ومعناه: لاعبنا -وعانسنا من العنوسة وهي اللعب- ورواه ابن قتيبة بالشين المعجمة، قال: ومعناه: عانقنا، والأول هو المعروف وهو أعم.
وأما قوله: (نافق حنظلة) فمعناه: أنه خاف أنه منافق، حيث كان يحصل له الخوف في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم ويظهر عليه ذلك مع المراقبة والفكر والإقبال على الآخرة، فإذا خرج اشتغل بالزوجة والأولاد ومعاش الدنيا، وأصل النفاق: إظهار ما يكتم خلافه من الشر، فخاف أن يكون ذلك نفاقاً، فأعلمهم النبي عليه الصلاة والسلام أنه ليس بنفاق، وأنهم لا يكلفون الدوام على ذلك، أي: أنهم غير مكلفين بأن يعيشوا دائماً -حتى في طلب معاشهم- كما لو كانوا يعيشون في مجلس الوعظ والذكر، فالنبي عليه الصلاة والسلام كان يبكي أحياناً ويضحك أحياناً، فهل يضحك إنسان يرى النار رأي العين؟ لا يمكن قط، لكن رحمة الله عز وجل تدرك جميع الخلق من المؤمنين الموحدين، فينسون ما يكدر عليهم معاشهم وحياتهم، حتى يتسنى لهم طلب الحياة والمعاش، وإلا لو كان منظر النار لا يغيب قط عن عين أحد لما انتفع بنفسه، ولما انتفع بقلبه، ولذا كان من رحمة الله عز وجل بالإنسان أنه ينسى أحياناً المواعظ حتى ينشغل بما تعين عليه في وقته.
لكن لو أن إنساناً في مصنع أو على مكينة أو على كمبيوتر أو أي شيء من الأعمال، وصورت له النار، أو سمع موعظة بليغة جداً أثرت في قلبه، فربما عطلته عن العمل لفرط شفافيته ورقته، وآخر: يأتي فيشكي أنه لا يستطيع أن يأتي زوجته، أو يداعب أولاده، ولا أن يعمل في العمل وحياته كلها مكدرة مقلوبة رأساً على عقب؛ لأنه يخاف الله ولم يتصور أنه لا يغفر ذنبه، فهذا إنسان في طريق اليأس من رحمة الله عز وجل.
وأما قوله: (فقلت: يا رسول الله! نافق حنظلة.
فقال: مه) قال القاضي: معناه الاستفهام، أي: ما تقول؟ والهاء هنا هاء السكت، قال: ويحتمل أنها للكف والزجر والتعظيم لذلك، يعني: كأنه أراد أن يقول له: اسكت فلم تنافق.