وفي حديث البراء بن عازب قال النبي عليه الصلاة والسلام: [(كيف تقولون بفرح رجل انفلتت منه راحلته -أي: انطلقت وانسلت- تجر زمامها بأرض قفر ليس فيها طعام ولا شراب -يعني: أن حبلها مجرور وراءها- وعليها له طعامه وشرابه، فطلبها حتى شق عليه -يعني: أجهده البحث- ثم مرت بجذع شجرة فتعلق زمامها -يعني: أن هذه الناقة أو البعير أو الحمار في أثناء سيره في الصحراء مر بشجرة فتعلق الحبل بأصلها- فوجدها متعلقة به -النبي عليه الصلاة والسلام يقول: ما رأيكم في فرحة رجل كهذا؟ - قالوا: شديداً يا رسول الله! فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أما والله! لله أشد فرحاً بتوبة عبده من الرجل براحلته)].
وفي حديث أنس قال النبي عليه الصلاة والسلام: [(لله أشد فرحاً بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته، فبينا هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح: اللهم! أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح)].
لكن: لو أن واحداً قال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك.
فإنه يكفر؛ لأنه نسب نفسه إلى الربوبية والإلهية، ونسب الرب والإله إلى الخلق، لكن إن صدر من العبد بغير قصد، أو سبق لسان على سبيل السهو والخطأ فلا شيء عليه، وهذا ما يعبر عنه الفقهاء: بأنه ليس بلازم لمن نطق بالكفر أن يتلبس بالكفر أو يلبسه الكفر.
ومن نطق بالبدعة ليس بلازم أن تلبسه البدعة أو أن يتلبس بالبدعة.
وهذا كلام خطير جداً، فلو أن رجلاً مشهود له بالصلاح والعلم قال بقول المعتزلة في مسألة اعتقادية، أو قال بقول المرجئة، أو الشيعة، فهل يلزم من قوله بقول هؤلاء أن يكون شيعياً، أو قدرياً، أو مرجئاً؟ لا يلزم، وإنما يرد عليه ما قد أخطأ فيه وجانبه الصواب فيه، ويبقى على أصله واستقامته، ولا نخرجه من دائرة السنة لقول وافق فيه المبتدعة، فقد وافق الحافظ ابن حجر الأشعرية في تأويل بعض الصفات، لكن لا ينسب ابن حجر إلى البدعة أو إلى الأشعرية، فقد شن هجوماً شديداً جداً في المجلد الأول والثاني والثالث عشر في فتح الباري على الأشعرية، وأثبت أنهم ليسوا من أهل السنة والجماعة، فرجل كهذا يوافقهم في بعض المسائل إنما نقول: خالف فيها أهل السنة والجماعة مخالفة غير متعمدة، إما أن يكون سبق لسان إذا كان كلاماً، أو سبق قلم إذا كان كتابة، أو يكون عن جهل وعدم دراسة.
وكذلك ليس كل من تلبس بالكفر كافراً، أو وقع في البدعة مبتدعاً، إلا إذا خالف في أصل من أصول أهل السنة والجماعة، وأقيمت عليه الأدلة والحجج والبراهين على أن هذا مذهب الاعتزال، أو مذهب القدرية، أو مذهب الأشاعرة، أو مذهب الشيعة، واختار أن يسلك هذا الطريق، ثم لو كان من أهل اللسان أو القلم صنف في الرد على ما كان عليه أولاً.
ولذلك يقول ميمون بن مهران: إن أبلى البلاء أن تعرف ما كنت تنكر، وتنكر ما كنت تعرف.
أي: أن من أعظم البلاء أن تنكر في المستقبل ما تعرفه قبل ذلك، أو تعرف في المستقبل ما كنت تنكره الآن، فهذا بلاء عظيم جداً، أن يتحول المرء من طريق السنة إلى طريق البدعة، ولا يقف عند هذا الحد، بل يرد على أهل السنة وينسبهم إلى البدعة، والانتقال من السنة إلى البدعة كلام مجمل، فإذا قلت: بدعة.
فمعناه: أن كل ما عليه بدعة، وليس هناك شيء اسمه دليل، يعني: أن ترك السنة والانتقال إلى البدعة معناه: الانتقال إلى غير دليل؛ لأن البدعة لا دليل عليها، والدليل إنما يؤيد السنة.
والنبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك من باب أنه لم يقع، لكنه تمثيل، فيقول العبد من شدة الفرح: (اللهم أنت عبدي وأنا ربك)، وهذا على سبيل الخطأ، ولذلك قال: (أخطأ من شدة الفرح).
ولذا فإن الإنسان قد يبلغ درجة الإغلاق من الغضب أو من الفرح، وليس بلازم أن يكون غضباً فقط، ونحن قد قلنا قبل ذلك: إن الغضب والرضا والسخط والفرح والسرور وغير ذلك كلها انفعالات نفسيه، فإن كانت منضبطة فهذا حد الاعتدال، وإن زادت فربما لا يترتب عليها أثر، فلو أن إنساناً غضب غضباً شديداً بلغ معه درجة إغلاق العقل، بحيث إنه لا يدري ما يقول ولا ما يفعل، فقد يرمي بابنه من أعلى البيت إلى الشارع وهو لا يدري ما يفعل، وكذلك لو قال لامرأته: أنت طالق، فلا يقع طلاقه، ولو قال لله: أنت عبد وأنا ربك، فلا يكفر.
أيضاً: لو أن إنساناً فرح فرحاً زائداً جداً، إلى حد أنه يضحك بهستيرية من شدة الفرح، فلا يترتب عليه عند الخطأ وعدم القصد والتعمد أثره.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.