ذكر الحافظ ابن حجر في كتاب الهبات في الباب الثاني والثلاثين من الفتح: باب ما قيل في العمرى والرقبى، قال: أعمرته الدار، فهي عمرى، أي: جعلتها له، كما في قوله تعالى: {وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود:61]، أي: جعلكم عماراً، ثم ذكر حديث جابر: (قضى النبي عليه الصلاة والسلام بالعمرى أنها لمن وهبت له)، وذكر حديث أبي هريرة: (العمرى جائزة)، وهو كذلك في حديث جابر.
ثم قال: والعمرى مأخوذة من العمر، والرقبى مأخوذة من المراقبة؛ لأنهم كانوا يفعلون ذلك في الجاهلية، فيعطي الرجل الدار ويقول: أعمرتك إياها، أي: أبحتها لك مدة عمرك، فقيل لها: عمرى لذلك، وكذا قيل لها: رقبى؛ لأن كلاً منهما يرقب صاحبه متى يموت لترجع إليه، وكذا ورثته، فيقومون مقامه في ذلك، هذا أصلها، يعني: حتى الورثة يرقبون موت مورثهم، يعني: إما أنها سميت رقبى لأن كلاً من المعطي والآخذ ينتظر موت صاحبه، وكذلك الورثة ينتظرون ويرقبون موت مورثهم؛ حتى تنتقل إليهم هذه الدار.
وأما شرعاً: فالجمهور على أن العمرى إذا وقعت كانت ملكاً للآخر، ولم يخالف في ذلك غير مالك وقال: عقد منفعة، أما الجمهور على أن العمرى إذا وقعت كانت ملكاً للآخر، ولا ترجع إلى الأول إلا إن صرح باشتراط ذلك، لكنه إذا قال المعمر حين العقد للمعمَر: أعمرتك إياها مدة حياتك، فإذا متَّ ردت إليَّ، هذا شرط، والمؤمنون عند شروطهم، ما لم يحلوا حراماً أو يحرموا حلالاً.
ثم قال: (وذهب الجمهور إلى صحة العمرى، إلا ما حكاه أبو الطيب الطبري عن بعض الناس، والماوردي عن داود الظاهري وطائفة، لكن ابن حزم الذي هو شيخ الظاهرية صحح عقد العمرى، ثم اختلفوا إلى ما يتوجه التمليك، هل يتوجه إلى الرقبة أم إلى المنفعة؟ فالجمهور على أن العقد يتوجه إلى الرقبة، بخلاف المالكية فإنهم قالوا: يتوجه إلى المنفعة.
ثم ساق الأحاديث التي وردت في مشروعية العمرى، فقال بعد ذلك: فيحصل لنا من هذه الروايات ثلاثة أحوال: الأولى: أن يقول: هي لك ولعقبك، فهذا صريح في أنها للموهوب له ولعقبه؛ فلا إشكال في ذلك.
الحالة الثانية: أن يقول: هي لك ما عشتَ، فإذا متَ رجعت إليَّ؛ فهذه عارية مؤقتة، وهي صحيحة، فإذا مات رجعت إلى الذي أعطى، وقد بينت هذه والتي قبلها رواية الزهري.
يعني: التي كان يفتي بها الإمام الزهري، وكذلك جابر بن عبد الله، وبه قال أكثر العلماء ورجحه عامة الشافعية، والأصح عند أكثرهم أنها لا ترجع إلى الواهب، واحتجوا بأنه شرط فاسد، فكأنه كالشرط الملغي، لكن الأول هو الراجح.
الصورة الثالثة: أن يقول: أعمرتكها، ويسكت، لم يقل: ولعقبك، فرواية أبي الزبير تدل على أنها تأخذ حكم ما لو قال له: أعمرتك ولبنيك؛ لأنه إذا لم يشترط الرجوع إليه فكأن نيته انصرفت إلى التمليك المطلق.
إذاً: لدينا صورتان من صور العمرى كلاهما عقد تمليك، وصورة واحدة عقد ملك المنفعة.
الصورة الأولى: لو قال المعمِر للمعمَر: أعمرتك الدار ولعقبك من بعدك؛ انتقلت هذه الدار بالميراث إلى الورثة؛ لأنها دخلت في ملك المعمَر.
الصورة الثانية: لو أطلق ولم يخير ولم يشرط؛ فتأخذ نفس الحكم.
أما الصورة الثالثة: لو قيد ذلك بالعمر: أعمرتك إياها مدة عمرك، أو مدة عمري؛ فأينا مات ردت إلى أهله، فالشرط هنا ينبغي اعتباره، وأن الأصل في هذه الصورة أنها تمليك للمنفعة لا تمليك للعين، وهي صحيحة عند الجمهور، وأبطلها بعضهم.