إذا علمنا هذا فينبغي أن نرجع إلى خاتمة درسنا في هذه الليلة وهو ما موقفنا من الإمام النووي؟ بعد هذه القواعد وهذه الأصول، وهذه الأعذار التي يجب أن تلتمس من حسن الظن، والخوف من الله عز وجل، ما عقيدتنا؟ وما هو القول الفصل في الإمام النووي عليه رحمة الله تبارك وتعالى.
على أية حال الإمام النووي لا يحتاج منا إلى مدح وثناء، فما من إنسان ترجم له إلا ومدحه وأثنى عليه خيراً، وكتب الله عز وجل له القبول في مصنفاته؛ فانتشرت في حياته في ربوع الأرض شرقاً وغرباً، فهو لا يحتاج منا إلى مدح، ومن نحن حتى نمدحه؟ ولكن في هذا المقام لا بد أن ننبه إلى مسألة عظيمة من المسائل المهمة: وهي أن الله عز وجل قد أيد هذا الدين برجال ذبّوا عنه في مختلف الميادين في الجهاد والدعوة والعلم وإن كانوا قد انحرفوا قليلاً أو كثيراً عن مسلك ومعتقد أهل السنة.
فأضرب لذلك مثالاً بالإمام أبي بكر البيهقي عليه رحمة الله، ذلك المحدّث الفقيه الجليل.
فقيل في حق البيهقي: إن الشافعي عليه رحمة الله له فضل على كل من تشفّع -يعني: الإمام الشافعي فضله وختمه واضح على كل من اتبع مذهبه- إلا الإمام البيهقي؛ لأنه هو الذي نشر ونصر مذهب الإمام الشافعي في الفقه والحديث، وصنّف فيه المصنفات العظيمة جداً، كما صنّف ابن عبد البر في مذهب الإمام مالك، وكما صنّف السرخسي في مذهب الإمام أبي حنيفة، وكما صنّف ابن قدامة وغيره في مذهب الإمام أحمد بن حنبل، فهؤلاء طلاب وتلاميذ لهؤلاء الأئمة العظام إنما هم الذين نشروا مذاهبهم.
هذا الإمام البيهقي أيضاً كان فيه بعض انحراف عن عقيدة أهل السنة، وكذلك ابن عساكر الذي صنّف مصنفات لا يمكن لمن سبقه ولا لمن أتى من بعده أن يصنّف مثلها، وكفاه شرفاً وفخراً وفضلاً أنه صنّف كتاب التاريخ، ولو طُبع هذا الكتاب طبعة كاملة لبلغ مائتي مجلد أو أكثر من ذلك.
وكذلك العز بن عبد السلام، ومعلوم جرأته وشجاعته في الحق، والتزامه السنة ومذهب المحدثين إلا أنه كان أيضاً يخالف إلى مذهب الأشاعرة في كثير من الأحيان، ولنا أسوة بسلفنا الصالح والأئمة، فإنهم رووا عن الكثير من المبتدعة أحاديث؛ لعلمهم أنهم أصحاب عدل وإنصاف وصدق وأمانة، ونجتنب التشهير والتطويل.
قال: فإن هذا ليس من منهج السلف وإنما نكتفي ببيان بدعته وردها إذا تعرضنا لها، أي إذلالنا واحترامنا لأهل العلم الذين انحرفوا عن منهج السلف أحياناً لا يحملنا على أن نقبل كل ما أتوا به، وإنما من نصيحتنا لهؤلاء ومن نصيحتنا لديننا ولعلمنا ولمن يتعلم منا أن نأخذ ما وافقوا فيه الحق وأن نرد ما خالفوا فيه الحق، وهذا كله في حق العالم إذا لم تغلب عليه البدع والأهواء، وعلمنا منه حرصه على متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم وتحري الحق من الكتاب والسنة، إلا أنه لم يصبه بشبهة ما أو غير ذلك، وهكذا يكون الأمر مع النووي.
إذاً: الإمام النووي كان يتحرى الحق، ولكنه كان يجانبه أحياناً، فلا يأتي أحد فيقول: الإمام النووي أشعري أو الإمام النووي من أهل البدع، والحافظ ابن حجر من أهل البدع، فوالله لقد بلغني أن شخصاً يقول: إن المجلد الأخير من فتح الباري ينبغي أن يحرق أو يلقى في المزابل، وأنا أتصور أنه من حقي الآن أن أقول: إنه فلان من الناس، ولكني أتوقف في هذا وإن كان قد بلغني هذا القول عن ذلك القائل بالخبر المتواتر، ولكني أتورع عن نسبة هذا القول إليه الآن والحذر منه؛ لكوني لم أسمعه شخصياً، فالمقولة التي قيلت في الإمام ابن حجر بسبب موافقته أحياناً للأشعرية عن خطأ أو تأويل مقولة فيها فظاظة وجهالة وسوء خلق وسوء أدب مع علمائنا الأفاضل الكبار العظام.
ويكفي الحافظ ابن حجر كتاب الفتح إن لم يكن له غيره، فإنه والله منَّ الله عليه، وفتح عليه وعلى هذه الأمة، ولن يتناول أحد صحيح البخاري بالشرح والبيان والتفصيل بمثل ما تناوله الحافظ ابن حجر، فعلى الجميع رحمة الله تبارك وتعالى.
ونختم بكلام لـ شيخ الإسلام نفيس غاية النفاسة، ذكر فيه الحكم على العالم المتأول الذي من عادته وديدنه الوقوف عند الحق، ولكن لم يصبه في بعض الأمور.
قال: وليس لأحد أن يتبع زلات العلماء بل ولا رخص الفقهاء، يعني: إذا كان لا ينبغي لك أن تتبع رخص الفقهاء، فمن باب أولى لا ينبغي لك أن تتبع الزلات، وهي السقطات التي خالفت الحق مخالفة صريحة، ويعجبني رسالة صُنّفت بعنوان: (زجر السفهاء عن تتبع رخص الفقهاء)، وسموه سفيهاً، وما أكثر السفهاء في هذا الزمان، تجد من يستفتيك في مسألة فتقول له: مكروه أو حرام، ف