قال: [وحدثنا محمد بن حاتم وابن أبي عمر كلاهما عن ابن عيينة قال ابن حاتم: حدثنا سفيان بن عيينة عن عبدة وعاصم بن أبي النجود سمعا زر بن حبيش يقول: (سألت أبي بن كعب رضي الله عنه فقلت: إن أخاك ابن مسعود يقول: من يقم الحول يصب ليلة القدر)] يعني: الذي سيصلي العام كله سيدرك ليلة القدر، وهذا مذهب خاص لـ ابن مسعود فقد كان يرى أن ليلة القدر في رمضان وفي غير رمضان، وأن من قام الحول كله لا بد له من إصابة ليلة القدر.
قال: [(فقال: رحمه الله، أراد ألا يتكل الناس)] انظر إلى الأدب من أبي بن كعب مع ابن مسعود، حيث قال: رحم الله أخي ابن مسعود، ثم بين بأدب شديد جداً خطأ ابن مسعود بعد أن دعا له بالرحمة ووجد له مخرجاً وعذراً بقوله: (أراد ألا يتكل الناس) يعني: هو أراد أن تجتهدوا في العبادة في جميع السنة، لم يجعلها في العشر الأواخر، ولا في رمضان، بل في السنة كلها.
قال: [(أما إنه قد علم أنها في رمضان)] يعني: أبي بن كعب أثبت أن ابن مسعود يعلم أنها في رمضان، ولكنه قال لكم خلاف ما يعلم؛ حتى لا تتكلوا، وهذا من فقه الدعوة.
قال: [(وأنها في العشر الأواخر، وأنها ليلة سبع وعشرين)] يعني: مذهب أبي بن كعب أنها على التعيين من كل عام ليلة سبع وعشرين، وكان يقسم على ذلك ولا يستثني، يقول: أقسم بالله العظيم أو أحلف بالله غير حانث ولا مستثن أنها ليلة السابع والعشرين فيما مضى؛ لأنها لو كانت فيما بقي لكانت في أول الشهر يوم اثنين أو ثلاثة.
وهذا يدل على أن العالم لا يلزمه أن يفتي بكل ما يعلم؛ لأنه لا بد وأن ينظر في مصلحة المستفتي، أحياناً يأتيك الرجل فيقول لك: أنا قلت لامرأتي: عليها الطلاق، قد تقول: وقع الطلاق، والطلاق لم يقع، وهذا اللفظ عند بعض أهل العلم يقع به الطلاق، وعند الجمهور طلاق ضمني، يعني: إذا نوى به الطلاق وقع، وإذا لم ينو لم يقع، يقول لك: أنا لم أنو، هذه زوجة وعشرة سنين وعيال وأكل وشرب وملابس فكيف أنوي؟ لم أنو والله، فإن كان من أهل العلم أو طالب علم مؤدب محترم وصاحب دين وعلم ووقع في مثل هذا تقول له: لا شيء عليك ولا حرج، عليك كفارة يمين؛ لأن هذا صاحب دين وتحرٍ، ويعلم أن نساء المؤمنين ليس بالأمر الهين، وخراب البيوت ليس بالأمر الهين، بخلاف من قد جثم الشيطان على صدره بالليل والنهار، فمثل هذا يخوف، وسار جماهير أهل العلم قديماً وحديثاً أنه ليس بلازم أن يفتي الرجل المستفتي بما هو حق في الشرع، بل يمكن أن يتجاوزه لمصلحة المستفتي، استناداً إلى المصلحة الخاصة للمستفتي، وأنه لا يضره بالفتوى؛ لأنه ليس كل العلم ينفع الناس، فمن العلم ما يفتنهم ويضرهم ويضلهم، ولذلك قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟.
ويقول ابن مسعود: ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة.
مع أنه دين وعلم وأدلة، لكن لا تبلغ لهذه الأدلة عقول الخلق، فينبغي أن يخاطبوا على قدر عقولهم؛ حتى لا يكذبوا الله تعالى ورسوله.
إذاً: فالأصل أن يتفرس المفتي في وجه المستفتي، وألا يعطيه من العلم إلا ما ينفعه، أقل منه لا، زيادة عنه لا، أقل منه يجعله يفرط، وأكثر منه يضله ويشقيه.
قال: [(ثم حلف - أي أبي - لا يستثني - أي لا يقول: إن شاء الله - أنها ليلة سبع وعشرين، فقلت: بأي شيء تقول ذلك يا أبا المنذر؟ -وهذه كنية أبي - قال: بالعلامة أو بالآية التي أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها تطلع يومئذ لا شعاع لها)]، لم يذكر العلامة وهي الشمس؛ لبيانها وعدم الحاجة إلى ذكرها، فالشمس تطلع في ذلك اليوم لا شعاع لها، نحن في هذا الوقت عندما ننظر إلى الشمس وهي في جهة المشرق عند طلوعها نرى أشعة مثل الحبال والخطوط تخرج من الشمس إلينا، ففي ليلة القدر تمتاز عن بقية الليالي فيما يتعلق بعلامتها وأمارتها في صبيحة تلك الليلة، وهي أن الشمس تخرج في صبيحة ليلة القدر بيضاء نقية لا شعاع لها صافية، من ينظر إليها يسعد جداً بنظره إليها، بخلاف غيرها من الأيام، فإنك لا تطيق النظر إليها كثيراً؛ لأنه يؤذيك شعاعها، لكن في هذا اليوم بالذات تخرج بلا شعاع.
إذاً: هذه إحدى الأمارات والعلامات على أن الليلة الماضية والمنصرمة كانت ليلة القدر.
قال: [وحدثنا محمد بن المثنى حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة قال: سمعت عبدة بن أبي لبابة يحدث عن زر بن حبيش عن أبي بن كعب رضي ال