ومذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد وجماهير السلف والخلف: أن قضاء رمضان في حق من أفطر بعذر كحيض وسفر يجب على التراخي وتستحب المبادرة به، بخلاف داود قال: تجب المبادرة به في أول يوم من بعد العيد، وهذه الأحاديث ترد عليه.
والقول بعدم وجوب المبادرة بصوم القضاء؛ لأن الوقت موسع، كما لو أن شخصاً فاتته جماعة الإمام في صلاة المغرب، وبين المغرب والعشاء ساعة ونصف، فهل يلزمه لزوماً شرعياً أكيداً أن يصلي في أول الوقت؟ لا يلزمه؛ لأنه لا زال الوقت موسعاً، لكن لو افترضنا أن صلاة المغرب هذه يستغرق المصلي فيها عشر دقائق، ولم يبق من الوقت إلا عشر دقائق فهنا ضاق الوقت، وفي هذه الحالة تجب عليه صلاة المغرب على الفور؛ لأن الوقت ضيق، وإنما تجب الصلاة عليه على التراخي في أول الوقت، لكن يستحب المبادرة.
وهذه مسألة أخرى تتعلق بالوقت الموسع والوقت المضيق، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله: لو قام رجل لصلاة الفجر متأخراً، ولم يبق بينه وبين طلوع الشمس إلا مقدار وقت لا يسمح له إلا بأحد أمرين: أن يغتسل فيخرج الوقت، أو يتيمم ويصلي ويدرك الوقت، ماذا يعمل؟ تعرض العلماء لمسائل في غاية الدقة، وتكلم ابن تيمية في هذه المسألة، يقول: في المسألة مذاهب، ولكل مذهب أدلته، ثم يعدد أربعة مذاهب في المسألة، ويذكر دليل كل مذهب، ثم يقول: والراجح عندي كيت بدليل كيت، يعني: أتى بمذهب خامس في المسألة، وذكر أدلة أخرى خفيت على أصحاب المذاهب الأربعة، وهذا شيء عجيب، كان ابن تيمية أمة وحده، لو أن الله تعالى ما خلق من علماء الأمة غير ابن تيمية وابن القيم لكفى، مع أن ابن تيمية في ميزان أحمد بن حنبل لا شيء، وابن تيمية وابن القيم في ميزان الشافعي لا شيء، لكن أنا أقول لك: لو لم يخلق الله تعالى إلا هذين الاثنين وبهذه المكانة والمنزلة من العلم لكفيا الأمة علماً واجتهاداً وإفتاءً وتدريساً إلى يوم القيامة، فما بالك والأمة غنية وثرية بعلمائها وطلاب علمها إلى يوم القيامة في كل زمان ومكان.
فـ ابن تيمية عليه رحمة الله يقول: يتيمم ويصلي حتى لا يخرج الوقت.
ولكن يبقى نزاع: هل يعيد هذه الصلاة بعد طلوع الشمس أم لا يعيدها بعد الاغتسال؟ فشيخ الإسلام ابن تيمية رجح أنه يتيمم ويصلي مع وجود الماء؛ لأن الذي منعه من استعمال الماء هو ضيق الوقت، لكن رجح ابن تيمية أيضاً أن يعيد الصلاة بعد الغسل بعد طلوع الشمس، وصلاته بالتيمم كان لإدراك الوقت، والحصول على الأجر.
لكن لو كان التيمم من أجل صلاة الجماعة فلا تلزم الجماعة حينئذ، بل يلزمه الغسل والصلاة منفرداً.
إذاً: يستحب المبادرة بقضاء صوم رمضان، فمذهب الجمهور أنه ليس واجباً عليه، لكن يستحب المبادرة به للاحتياط.
يقول رحمه الله: (فإن أخره - أي: فإن أخر الصوم - فالصحيح عند المحققين من الفقهاء وأهل الأصول: أنه يجب العزم على فعله) يعني: لو فاتتني صلاة المغرب مع الإمام وإن كان الوقت موسعاً معي، لكن يلزمني واجب آخر هو العزم على الصلاة، فيفرقون بين إتيان الصلاة والعزم عليها، فلو أنك حين أذن للمغرب توضأت وانطلقت إلى المسجد لتصلي مع الإمام فهذا إتيان للصلاة وليس عزماً عليها، لكن لو فاتته الجماعة، ففواتها ليس عذراً في عدم العزم عليها، فمن عزم وعقد قلبه على أن يصلي هذا الفرض الذي فاته فأدركه الموت لا يعد من تاركي الصلاة، فعزمك هذا يغني عنك بين يدي الله عز وجل.
ثم يقول رحمه الله تعالى: (وأجمعوا أنه لو مات قبل خروج شعبان لزمه الفدية في تركه عن كل يوم مد من الطعام، فأما من أفطر في رمضان بعذر، ثم اتصل عجزه فلم يتمكن من الصوم حتى مات، فلا صوم عليه) يعني: لو مرض شخص ومات قبل شعبان، فهذا الرجل إما أن يكون عازماً على الصيام من بعد رمضان الماضي أو غير عازم، فإن كان عازماً فلا إثم عليه؛ لأن وجوب القضاء عليه على التراخي، والشرع أذن له في أن يصوم على التراخي، يصوم في ربيع، أو في صفر، أو في رجب، أو في شعبان، أذن له الشرع في ذلك، فإذا أذن له الشرع أن يقضي ما عليه على التراخي، وعزم على أن يقضي ما فاته في رمضان في شعبان، لكنه مات قبل شعبان، فهل يعد مفرطاً في فرض من فروض الله عز وجل؟ لا، لا يعد مفرطاً.