قال المصنف رحمه الله: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا وكيع -وهو ابن الجراح الرؤاسي - حدثنا الأعمش عن المعرور بن سويد قال: (مررنا بـ أبي ذر بالربذة -وهي اسم مكان- وعليه برد وعلى غلامه مثله)]، والبرد هو الثوب الواحد، بخلاف الحلة فهي ثوبان، وأثمن وأنفس ثياب العرب الحلل، بخلاف البرد فإنها من عامة لباس العرب.
وفي الأثر أن ابن عباس سأل عكرمة مولاه عن معنى آية فلم يعرفها، فربطه في سارية المسجد ثلاثة أيام حتى أتى بالمعنى على وجهه، قال عكرمة: فحلني ابن عباس وأهداني حلة، فكانت عندي تساوي الدنيا وما فيها.
قال: [(وعليه برد وعلى غلامه مثله، فقلنا: يا أبا ذر! لو جمعت بينهما كانت حلة -أي: لو أخذت برد غلامك وضممته إلى بردك لكانت حلة- فقال: إنه كان بيني وبين رجل من إخواني -أي: من المسلمين- كلام، وكانت أمه أعجمية -أي: ليست عربية- فعيرته بأمه -أي: سبته وشتمته بأمه- فشكاني إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلقيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا أبا ذر! إنك امرؤ فيك جاهلي)].
والجاهلية عند الإطلاق تعني الكفر، وهي هنا ليست بمعنى الكفر، وإنما هي معصية، ولذلك أخرج البخاري هذا الحديث في كتاب الإيمان وعنون له: باب المعاصي من أمر الجاهلية، أي: من أخلاق الجاهلية وليست من أخلاق الإسلام.
قال: [(قلت: يا رسول الله! من سب الرجال سبوا أباه وأمه)]، يعني: يا رسول الله! هو سبني، فأنا سببته، فلما سبني في شخصي سببته بأمه وهو المعتدي أولاً، فظن أبو ذر أن ابتداء وقوع السب عليه يؤهله ويجوز له أن يتعدى هو في سب الآخرين، فالرجل سبه أولاً، ثم قام أبو ذر بسب هذا الرجل بأمه وعيره وشتمه بأمه، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: [(يا أبا ذر! إنك امرؤ فيك جاهلية، هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم، فأطعموهم مما تأكلون، وألبسوهم مما تلبسون، ولا تكلفوهم ما يغلبهم؛ فإن كلفتموهم -أي: ما يغلبهم وما لا يطيقون- فأعينوهم)].
حدثنا أحمد بن يونس حدثنا زهير -وهو ابن معاوية بن حديج الجعفي - (ح) وحدثنا أبو كريب -وهو محمد بن العلاء الهمداني - حدثنا أبو معاوية -وهو محمد بن خازم الضرير - (ح) وحدثنا إسحاق بن إبراهيم -وهو المعروف بـ ابن راهويه - أخبرنا عيسى بن يونس -وهو ابن أبي إسحاق السبيعي - كلهم يروي عن الأعمش بهذا الإسناد]، يعني: عن الأعمش عن المعرور بن سويد عن أبي ذر.
[وزاد في حديث زهير وأبي معاوية بعد قوله: (إنك امرؤ فيك جاهلية)، قال: قلت -أي: أبو ذر - على حال ساعتي من الكبر؟]، يعني: كأنه استنكر أن يكون فيه خصلة من خصال الجاهلية بعد تقدمه في السن، وبعد هذا العمر الطويل الذي قضاه في الإسلام هل لا يزال فيه بعض أخلاق الجاهلية، فقال: (على حال ساعتي من الكبر يا رسول الله؟!) يعني: هل يعقل بعد هذه المدة وبعد هذا العمر كله في الإسلام لا تزال بعض أخلاق الجاهلية فيَّ؟! [قال: (قلت: على حال ساعتي من الكبر؟ قال: نعم)، وفي رواية أبي معاوية: (نعم، على حال ساعتك من الكبر)، وفي حديث عيسى: (فإن كلفه ما يغلبه فليبعه)].
وفي الحقيقة هذا اللفظ فيه تصحيف، والذي يترجح هو رواية معظم الرواة: (فإذا كلفه ما يغلبه فليعنه).
[وفي حديث زهير: (فليعنه عليه)، وليس في حديث أبي معاوية: (فليبعه)، ولا (فليعنه)، انتهى عند قوله: (ولا يكلفه ما يغلبه).
حدثنا محمد بن المثنى وابن بشار -واللفظ لـ ابن المثنى - قالا: حدثنا محمد بن جعفر -وهو المعروف بـ غندر - حدثنا شعبة -وهو ابن الحجاج العتكي - عن واصل الأحدب -وهو واصل بن حيان الأحدب الأسدي الكوفي - عن المعرور بن سويد قال: (رأيت أبا ذر وعليه حلة وعلى غلامه مثلها، فسألته عن ذلك؟ قال: فذكر أنه ساب رجلاً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم -والمسبوب هو بلال بن رباح - فعيره بأمه، قال: فأتى الرجل النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له -أي: فاشتكى المسبوب سبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم- فقال النبي صلى