وقد اختلفت ألفاظ هذا الحديث، ففي بعضها أنه سأله في الجعرانة وهو راجع من الطائف، وفي بعضها أنه سأله وهو راجع من حنين، وفي بعضها أنه سأله عن نذر يوم، وفي بعضها أنه سأله عن اعتكاف ليلة.
فكأن عمر رضي الله عنه نذر في الجاهلية مرة أن يعتكف ليلة، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم باعتكاف هذه الليلة، ونذر مرة أخرى في الجاهلية أن يعتكف يوماً، وكان قد نسي هذا لما سأل أولاً عن اعتكاف الليلة، فلما تذكر نذره الثاني في الجاهلية -وهو أنه نذر كذلك أن يعتكف يوماً- سأل النبي عليه الصلاة والسلام فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: (أوف بنذرك).
وهذا هو الجمع بين الروايات، وبعض الناس يقول: يطلق على الليل اليوم، فيكون مرد ذلك كله إلى أن عمر نذر أن يعتكف يوماً لا ليلة، وهذا كلام مردود حتى على قول من قال بلزوم الصوم في الاعتكاف؛ لأن الكافر لا يصح منه الصوم، وعمر بن الخطاب لم يكن قبل الإسلام يهودياً ولا نصرانياً من أهل الكتاب، بل كان مشركاً عابد وثن، ولا يصح منه صيام والحالة هذه، ولذلك سأل بعد إسلامه عن حكم هذا النذر، وسواء نذر أن يعتكف ليلة أو يعتكف يوماً؛ لأن كلاهما وقع منه رضي الله عنه.
والنبي عليه الصلاة والسلام أمره بأن يوفي بنذره في الحالين، وليست الحجة في نذر عمر، بل الحجة في قول النبي عليه الصلاة والسلام، ونذر عمر هذا شيء ثانوي؛ ولكن الحجة في أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بالوفاء بنذره، فالحجة في أمره عليه الصلاة والسلام، قال: (أوف بنذرك)، والنذر وقع في حالين: في حال الليل وفي حال النهار.
قال: [وحدثنا أحمد بن عبدة الضبي حدثنا حماد بن زيد حدثنا أيوب عن نافع قال: ذكر عند ابن عمر عمرة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجعرانة، فقال: لم يعتمر منها، قال: وكان عمر نذر اعتكاف ليلة في الجاهلية، ثم ذكر نحو حديث جرير بن حازم ومعمر عن أيوب.
وإنكار عبد الله بن عمر هنا لعمرة النبي صلى الله عليه وسلم من الجعرانة إنما هو إنكار متعلق بعلم عبد الله بن عمر، وليس إنكاراً مطلقاً، وهذا الإنكار فيه نفي حدوث العمرة من الجعرانة، وهو نفي لعلم ابن عمر أن النبي عليه الصلاة والسلام اعتمر من الجعرانة، ولكن قد ثبت في الحديث عند مسلم: أن النبي عليه الصلاة والسلام اعتمر أربع عمر، إحداهن من الجعرانة، والحديث ثابت وصحيح.
وأما ابن عمر فأنكر ما لم يكن في علمه، والإنكار ليس اتهاماً للآخرين، والكذب يطلق أحياناً ويراد به غير الحقيقة، فليس من لازم الكذب تأثيم قائله، كما قال سعيد بن جبير رحمه الله تعالى لـ ابن عباس: (إن نوف البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس هو موسى بن عمران، أي: ليس هو موسى النبي، وإنما هو موسى غيره، فقال ابن عباس: كذب عدو الله).
فالكذب يطلق على الكلام الذي خرج على غير حقيقته في الواقع، سواء تعمده صاحبه أم لم يتعمده، هذا تعريف الكذب عند أهل السنة، بخلاف المعتزلة.