الأصل أن يفي الحالف باليمين، ويجوز له العدول عن الوفاء إذا رأى في ذلك مصلحة راجحة وبراً وتقوى، كما قال الله تعالى: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ} [البقرة:224]، أي: لا تجعلوا الحلف بالله مانعاً لكم من البر والتقوى والإصلاح، فتقول: أنا أعرف أن هذا بر وتقوى وإصلاح، لكن أنا حلفت، نقول: لا يكون اليمين عائقاً في طريق البر والتقوى والإصلاح، بل جعل الله تعالى لنا فسحة الرجوع عما حلفنا لمصلحة أرجح، وهي تحصيل البر والتقوى والإصلاح.
وقال الله تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم:2]، أي: شرع الله لكم تحليل الأيمان بعمل الكفارة، وجاء في الحديث: (إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها؛ فائت الذي هو خير، وكفر عن يمينك).
يقول سيد سابق رحمه الله: (أقسام اليمين باعتبار المحلوف عليه).
يعني: أحياناً يكون حراماً، وأحياناً يكون مكروهاً، وأحياناً يكون واجباً، وأحياناً يكون مستحباً، وأحياناً يكون مندوباً، فذكر فيه الأحكام الشرعية الخمسة.
قال: (أن يحلف على فعل واجب أو ترك محرم، فهذا يحرم الحنث فيه؛ لأنه تأكيد لما كلف الله تعالى به عباده) كالذي يقول: والله لأبرن والدي، فهو حلف على شيء واجب عليه ابتداء، أو يقول: والله لا أزني، والله لا أسرق؛ لأنه في هذه الأبواب ينطلق لا يلوي على شيء، تأتيه الفاجرة فيفجر بها، أو يتيسر له المال الحرام فيسرقه أو ينهبه، فهو بهذا اليمين أراد أن يربي نفسه، ولا سبيل له إلا اليمين؛ فقال: والله لا أسرق بعد ذلك، هذا يمين واجب، فهو يحلف على ترك محرم؛ فهذا يحرم الحنث فيه؛ لأنه لو حنث فقد وقع في حرام آخر، وقع في الزنا والسرقة.
إذاً: الأول: أن يحلف على فعل الواجب وترك المحرم، فالحنث فيها من أعظم المعاصي في هذه الحالة؛ لأنه سيجمع بين معصيتين: التفريط في الواجب، وفعل المحرم، والوقوع في الحنث.
النوع الثاني: (أن يحلف على ترك واجب، يقول: والله لا أزور والدتي) هذا المثال واضح، وهو بلاء عام مستشر في المجتمع، لكن لو قال: والله لأضربن زوجتي، فإذا كان هناك موجب للضرب، وذلك بأن يكون قد تدرج معها في الإصلاح، حتى تعين في حقه لها الضرب لأجل الإصلاح؛ فحينئذ يجب عليه أن يضرب للإصلاح لا للانتقام، لكن إذا لم تأت زوجته بموجب الضرب، ولم تفعل فعلاً يستوجب ضربها، ثم هو يقول: والله لأضربنها؛ فهذا قد حلف على فعل محرم، فهذا يجب الحنث فيه؛ لأنه حلف على معصية، كما تجب الكفارة في ذلك.
الثالث: (أن يحلف على فعل مباح أو ترك هذا المباح؛ فهذا يكره فيه الحنث ويندب البر).
الرابع: (أن يحلف على ترك مندوب أو فعل مكروه؛ فالحنث مندوب، ويكره التمادي فيه، وتجب الكفارة).
الخامس: (أن يحلف على فعل مندوب أو ترك مكروه فهذا طاعة لله تعالى، فيندب له الوفاء، ويكره الحنث.
أما قول الله عز وجل: {لا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [البقرة:225]، لغو اليمين أن يقول: لا والله، وبلى والله، فهذا كلام درجت عليه الألسنة دون أن تقصد حقيقة اليمين، فهذا لا كفارة فيه، ولا يأثم في لغو اليمين.
لقد تدرج الناس من الحلف بالله إلى الحلف بأشياء أخرى، تجد الشخص يحلف باستمرار: علي الطلاق إلا ما شربت معي الشاي، عليّ الطلاق إلا ما أكلت معي, امرأتي طالق إذا لم تأت معي، وكثير من التطليقات تقع بهذا، يقول الإمام الماوردي: مثل هذه المصطلحات وضعها الشارع لأداء مهمة معينة في حياة المكلفين، فلا يجوز التلاعب بها.