قال المصنف رحمه الله تعالى: [وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن المثنى وابن بشار] ومحمد بن المثنى ومحمد بن بشار كلاهما فرسا رهان في السن والعلم والتقوى والعبادة، فإذا قرأت ترجمة أحدهما فكأنما تقرأ ترجمة الاثنين إلا أنهما يختلفان في الاسم.
قال: [وألفاظهم متقاربة.
قال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا غندر عن شعبة]، وغندر لقب له بمعنى: مشاغب في لغة الحجازيين، فـ محمد بن جعفر البصري كان يشغب على ابن جريج عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الأموي، فكان ابن جريج يقول له: اسكت يا غندر! فلقّب بـ غندر واشتهر بهذا اللقب.
[وقال الآخران: حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن سعد بن إبراهيم المدني قال: سمعت أبا أمامة بن سهل بن حنيف قال: سمعت أبا سعيد الخدري -وهو سعد بن مالك بن سنان المدني - قال: نزل أهل قريظة على حكم سعد بن معاذ].
وهم يهود؛ لأن يهود المدينة كانوا ثلاث قبائل: بني قريظة، وبني قينقاع، وبني النضير، وحاربهم النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: [(نزل أهل قريظة على حكم سعد بن معاذ)] ومعنى نزل.
أي: قبلوا أن يحكم فيهم سعد بن معاذ، وسعد بن معاذ سيد الأوس.
قال: [(فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد فأتاه على حمار)] وفي هذا: جواز ركوب الحمار، وهذا أمر يعرفه القاصي والداني، حتى أجهل الجهال يركبون الحمير بغير حرج ولا نكير، وكان للنبي عليه الصلاة والسلام حمار يسمى (يعفور) فكان يركبه ويردف خلفه بعض أصحابه، كما أردف معاذ بن جبل وأردف أسامة بن زيد وأردف الحسن والحسين.
والإرداف: أن يأخذ المرء آخر خلفه لا أمامه، فالإرداف دائماً يكون في الخلف.
والحمار لا يؤكل لحمه.
لكن هب أن هذا الحمار عرق، فأصاب ثوبك بعرقه، فهل يتنجّس الثوب؟
صلى الله عليه وسلم لا يتنجّس مع أنه غير مأكول اللحم، فعرقه لا يضر.
وذهب بعض أهل العلم إلى أن عرق ما لا يؤكل لحمه ينجّس.
ومذهب جماهير العلماء: أن عرق غير مأكول اللحم لا ينجّس.
وهو الصواب.
والنبي عليه الصلاة والسلام ركب الحمار من عرفات وتوضأ وضوءاً خفيفاً، فقال أسامة بن زيد: (يا رسول الله! الصلاة.
قال: الصلاة أمامك) أي: في مزدلفة، ونزل من على حماره فصلى المغرب والعشاء.
قال: [(فلما دنا قريباً من المسجد)] أي: سعد بن معاذ لما اقترب من المسجد، والنبي صلى الله عليه وسلم كان في بني قريظة، وبنو قريظة كانوا في عوالي المدينة، فالنبي عليه الصلاة والسلام كان فيهم حين طلب سعد بن معاذ ليحكم فيهم، فقوله: (فلما دنا سعد من المسجد) المسجد عند الإطلاق يعني: المسجد النبوي، ولكن بعض أهل العلم حكوا أن لفظ: (من المسجد) وهم من الراوي، فذكره تصحيفاً أو باجتهاد منه، أو روى ذلك رواية بالمعنى؛ لأن سعداً كان في المسجد حينما أرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم من عوالي المدينة وهو في بني قريظة.
والمقصود: أن النبي صلى الله عليه وسلم اختص مكاناً في بني قريظة ليصلي فيه، فأسماه الراوي مسجداً؛ لأن المسجد في اللغة: هو كل أرض يُسجد عليها، والنبي صلى الله عليه وسلم اختص مسجداً طيلة مدة بقائه في بني قريظة حتى يصلي فيه، وأعلم أصحابه أنه إذا حان وقت الصلاة اجتمعوا في هذا المكان، فسماه الراوي: مسجداً.
قال: [(فلما دنا قريباً من المسجد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قوموا إلى سيدكم، أو قال: قوموا إلى خيركم).
وفي هذا استحباب القيام لأهل الفضل ومن يشار إليهم بالبنان، ولا حرج في ذلك، وكثير من الناس يتحرّج من ذلك ويفهم القضية على غير وجهها، خاصة بعض طلاب العلم المبتدئين الذين علموا بقول النبي صلى الله عليه وسلم حينما دخل على أصحابه فقاموا إليه فقال: (لا تفعلوا كما تفعل الأعاجم بملوكها) أي: لا تقوموا لي كما كانت الأعاجم تقوم لملوكها، فحملوا هذا النهي على عمومه المطلق، وقالوا: لا يجوز القيام لأحد قط مهما بلغ قدره وعلت منزلته.
وهذا فهم خاطئ؛ لأنه إذا أردت أن تخرج بحكم واحد من قضية اختلفت فيها ظواهر الروايات؛ فينبغي أن تجمع الروايات كلها في الباب الواحد، ثم تؤلّف بينها لتخرج بحكم موافق للصواب، وإلا فلا يحل لك أن تنظر في دليل واحد ثم تخرج بحكم، وتعتقد به مدة من الزمان وتعمل به، ثم تفاجأ بنص آخر يهدم هذا المعتقد، ويهدم هذا العمل الذي عملته منذ كذا وكذا، ولذلك عمل بعض السلف برواي