إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، أما بعد، فمع الباب الثاني والعشرون: (باب: جواز قتال من نقض العهد).
وأنتم تعلمون أن من كان في عهد أو ذمة أو ميثاق يحرم قتله، قال عليه الصلاة والسلام: (من قتل ذمياً فليس مني).
وفي رواية: (فليس منا).
وقال عليه الصلاة والسلام: (من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة).
فالدماء الأصل فيها المنع والحرمة، فالإنسان ذاته يحرم عليه أن يقتل نفسه، وفي الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن تحسى سماً فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن تردى من جبل فهو يتردى من جبل في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً) ولا يصح من المسلم أن يقول: أنا حر فيقتل نفسه، إنما هو عبد لله تعالى، لا يصدر إلا عن أمر الله وأمر رسوله عليه الصلاة والسلام.
هذا شأن الإنسان مع نفسه، وشأنه كذلك مع أهل العهد والذمة، ثم شأنه مع عامة الدماء، الحرمة الأكيدة؛ ولذلك أخرج البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً)، وقال عليه الصلاة والسلام: (لزوال الدنيا أهون على الله عز وجل من قتل مؤمن بغير حق).
والآيات والأحاديث في ذلك كثيرة جداً: (ولا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيّب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة)، وقال عليه الصلاة والسلام: (من بدّل دينه فاقتلوه) أي: من بدّل دين الإسلام وارتد عنه فحكمه القتل، أما غير ذلك فلا، تحت هذا التبويب فنقول: لا يجوز قتال أهل العهد والذمة والميثاق من غير المسلمين.
لكن لو نقضوا العهد هل يجوز قتالهم؟
صلى الله عليه وسلم نعم.
يجوز قتالهم؛ لأنهم نقضوا العهد، ولا يحل للمسلم أن يبدأ هو بنقض العهد؛ لأن الأصل في المسلمين الالتزام بالمواثيق والعهود.
قال: (وجواز إنزال أهل الحصن على حكم حاكم عدل أهل للحكم).
انظر إلى الألفاظ: (على حكم حاكم عدل أهل للحكم).
يعني: أن يكون من أهل الاجتهاد، فلا آتي برجل من الشارع لا علاقة له بالشرع ولا بالدين ولا يعرف شيئاً وأقول له: احكم بيننا.
فإنه ما أضاع الدين إلا هذه المجالس العرفية التي لا تمت إلى الإسلام بصلة، فالمجلس الذي يحكم بكتاب الله وسنة رسوله لا شك أن حكمه مقدّم على أحكام القوانين الوضعية كلها، أما إذا حكم بالهوى والرأي فحكمه وحكم المحكمة سواء؛ لأن كلاهما حكم بغير ما أنزل الله.
أما إذا كان القاضي أو العمدة أو المُحكّم في قرية أو في مدينة أو في حي من الأحياء يحكم في هذه المجالس التي تسمى بالمجالس العرفية، فلا بأس بهذا القضاء إذا كان يستند إلى كتاب الله وإلى سنة الرسول عليه الصلاة والسلام، لكن في الغالب أن هذه المجالس إنما تعتمد على الاجتهادات الشخصية والآراء الفرعية التي لا علاقة لها بدين الله تعالى.
فمن صفة الحاكم: أن يكون إنساناً عدلاً، والعدل في اصطلاح العلماء عموماً: هو من كان له ملكة تحمله على ملازمة التقوى والمروءة.
وأنتم تعلمون أن الفسق يخرم العدالة، فالحاكم العدل يكون ملازماً للتقوى والمروءة ويتعفف عن المباح؛ لأن هذا المباح يستهجنه العرف في حق ذوي الهيئات.
فأنت من الممكن أن تأكل وتشرب في الشارع، لكن حينما يكون شيخاً كبيراً أو رئيس مجلس إدارة شركة ويمسك (سندويتش) ويأكل في الشارع فإن الناس يستغربون منه إذا رأوه يأكل في الشارع، فهو يتعفف عن هذا مع أنه مباح.
تصور أن شيخاً محترماً يشرب سيجارة -وهي محرمة- ويمشي في الشارع ويقابل آخر يشرب السيجارة، فالسيجارة من الملتحي أشد نكارة، والذي يُنكر عليه هو الحليق الذي يشرب الدخان فيقول له: يا شيخ! عيب عليك.
فعامة الناس يقسّمون الناس أقساماً، ويجعلون لكل قسم هيئته وحشمته، فلا ينبغي للإنسان أن يتنازل عن ذلك.
فلابد أن يكون الحاكم عدلاً أهلاً للحكم.
أي: مجتهداً.
أي: أنه حصّل أدوات الاجتهاد وأذن له الشرع أن يجتهد في إنزال الأحكام الشرعية منازلها الطبيعية.