(الباب الحادي عشر: يدخل الجنة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير).
إما أن يكون المراد بذلك: الرقة والخفة، وإما أن يكون المراد بذلك: الخوف والفزع.
ويؤيد المعنى الأول قول النبي عليه الصلاة والسلام لما رأى أهل اليمن: (أتاكم أهل اليمن هم أرق الناس أفئدة وألين الناس قلوباً).
ومعلوم أن قلب المؤمن مثل قلب الكافر في نفس اللون، ونفس القوام، لكن المراد معنوي فقد تعظ الناس بالجنة والنار وتذكر لهم الوعيد الشديد فربما انفطر وانصدع قلب المؤمن لأول وهلة، وربما لا ينصدع قلب الكافر حتى آخر لحظة، والقلوب منها القلب القاسي، والقلب اللين، والقلب الرطب بذكر الله، والقلب القاسي ببعده عن الله عز وجل وبعده عن ذكر الله، فالقلوب أنواع، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (القلوب أربعة).
قال عليه الصلاة والسلام: [(يدخل الجنة أقوام أفئدتهم)].
والفؤاد هو لب القلب [(مثل أفئدة الطير)].
فإما أن يكون المقصود بذلك الرقة واللين كما قال صلى الله عليه وسلم: (أتاكم أهل اليمن هم أرق الناس أفئدة وألين الناس قلوباً، الفقه يمان، والإيمان يمان والحكمة يمانية).
فالنبي عليه الصلاة والسلام يثني على أهل اليمن، وهم أهل لهذا الثناء، وأحق بهذا الثناء، وقد عرفهم النبي عليه الصلاة والسلام حق المعرفة، ولا تزال هذه الصفات يتمتع بها الشعب اليمني إلى يومنا هذا، تجدهم أقرب الناس إليك، وأحن الناس عليك، وألطف الناس محادثة، وأطوع الناس عند النقاش، وأأدب الناس عند الخلاف، هذه حقيقة صفات الشعب اليمني إلى يومنا هذا، كما أن النبي عليه الصلاة والسلام مدح الأنصار، وبلاد الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار، وهذا المدح تجده فيهم إلى الآن، وأهل مكة تجد فيهم القسوة، والغلظة، والجفاء، والعنجهية، والكبر، والغطرسة، وقلة الأدب، إلا من رحم الله عز وجل! وإما أن يكون المعنى المراد مثل أفئدة الطير في الخوف والهيبة؛ لأن الطير أفزع الخلق، تجد الحمامة في عز النوم وأول ما تسمع صوتاً غريباً ولو من بعيد تصير في أعالي السماء، قد فزعت وخافت.
وكأنه أراد أن يقول: لا يدخل الجنة إلا من حقق كمال الخوف والرجاء لله عز وجل.
وأنتم تعلمون أن الخوف والرجاء جناحا المؤمن في السير إلى ربه، فلا يغلب الخوف على الرجاء ولا يغلب الرجاء على الخوف وإنما هما جناحان يسيران في مسار واحد في الحياة الدنيا.
وأما في حال الصحة فقد قال بعض أهل العلم بجواز تغليب باب الخوف حتى يزيد الخائف من العمل؛ ولذلك: (لما قرأت عائشة رضي الله عنها: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:60]، قالت: يا رسول الله! أهذا الزاني الذي يزني، والقاتل الذي يقتل، والسارق الذي يسرق؟ قال: لا يا ابنة الصديق، إنما هؤلاء أقوام أتوا بصلاة وصيام وزكاة يخافون ألا يتقبل منهم).
أي: فيحملهم خوفهم هذا على المزيد من العمل، فالخوف المشروع هو الخوف الذي يجعل الخائف يزداد من الطاعات، أما الخوف الذي يؤدي إلى الإياس والقنوط من رحمة الله فليس هذا هو الخوف المشروع، إنما هذا خوف على غير مذهب أهل الحق وعلى غير مذهب أهل السنة والجماعة.
والرجاء كذلك يكون بعد العمل، فالمؤمن يصلي ويرجو الله تعالى أن يتقبل منه ذلك، ويصوم ويرجو الله تعالى أن يتقبل منه ذلك، ويفعل الطاعات وينتهي عن المعاصي ويرجو الله تعالى أن يثبته على الإيمان بعد العمل بعد بذل الوسع وإفراغ الجهد في مرضات الله تعالى، فهو يرجو ربه أن يتقبل منه ذلك، وأن يعفو عن السيئات والهفوات.
لكن رجاء لا عمل معه لا ينفع، والذي لا يصلي ويزعم أنه متكل على رحمة الله ليس بصادق مع نفسه إذ كيف سيرحمه الله عز وجل وهو الذي أعرض عن شرعه ودينه؟ وقد سمع الوعيد والتهديد في القرآن والسنة ولم يحرك فيه ساكناً، فكيف يعفو عنه الله عز وجل؟ ولو شاء الله أن يعفو عنه لعفا، لكن هناك أحكام شرعية ينبغي أن تتمسك بها حتى تكون أهلاً لرحمة الله عز وجل، فبعض الناس يتصور أن الرجاء أن يدع العمل، ويعتقد أن رجاءه ينفعه.
كلا وألف كلا، لا ينفعه ذلك، وليس هذا باب الكلام عن الخوف والرجاء.
ويمكن أن يحمل قوله: (مثل أفئدة الطير): أي في التوكل على الله عز وجل، خاصة في الرزق والأجل، ولذلك ضمن الله لعباده الأرزاق والآجال، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن روح القدس) أي: جبريل (نفث في روعي) أي: حدثني سراً.
(أن نفساً لن تموت حتى تستكمل رزقها وأجلها).
أي: يا محمد اعلم في نفسك، وأخبر أمتك أن أحداً لن يموت حتى يأخذ رزقه كاملاً بغير نقصان، والمطلوب هو (فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، واعلموا أن ما عند الله لا ينال إلا بطاعته).
أي: ما عليك إلا أن تطيع الله، ولا أقل من أن تكون كالعصفور، والحمام، وال