(الباب العاشر: ما في الدنيا من أنهار الجنة).
باب إثبات أن بعض أنهار الدنيا هي أنهار الجنة، أو أن أصل مائها من الجنة.
قال: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا أبو أسامة، وعبد الله بن نمير، وعلي بن مسهر، عن عبيد الله بن عمر، (ح) وحدثنا محمد بن عبد الله بن نمير، حدثنا محمد بن بشر العبدي، حدثنا عبيد الله بن عمر العمري، عن خبيب -أي: ابن عبد الرحمن - عن حفص بن عاصم، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سيحان، وجيحان، والفرات، والنيل، كل من أنهار الجنة)].
أي: كل نهر من هؤلاء من أنهار الجنة، وسيحان، وجيحان ليسا سيحون وجيحون، والنيل في مصر، والفرات في العراق يفصل بين أرض الشام وأرض الحجاز.
أولاً: نتعرف على هذه الأنهار وطبيعتها، ثم نتطرق بعد ذلك كيف أن هذه الأنهار من أنهار الجنة.
قال النووي: (أعلم أن سيحان وجيحان -وهما النهران الأولان- غير سيحون وجيحون، فأما سيحان وجيحان المذكوران في هذا الحديث اللذان هما من أنهار الجنة هما في بلاد الأرمن).
وبلاد الأرمن قرب الشام، وليست بلاد الأرمن بلاد الشام وإنما هي قريبة من الشام.
قال: (فجيحان هو المعروف الآن بنهر المصيصة، وسيحان نهر إذنة، وهما نهران عظيمان جداً أكبرهما جيحان).
قال: (أما قول الجوهري في صحاحه: جيحان نهر بالشام.
فغلط).
يعني: أخطأ في ذلك؛ لأنه قال أن جيحان نهر بالشام.
قال: (أو أنه أراد المجاز) يعني: أنه ببلاد الأرمن وهي قريبة من بلاد الشام فسماها الشام مجازاً فإذا كان يقصد ذلك وإلا فلا.
قال: (قال الحازمي: سيحان نهر عند المصيصة، قال: وهو غير سيحون).
يعني: سيحون شيء وسيحان شيء آخر.
قال: (وقال صاحب نهاية الغريب: سيحان وجيحان نهران بالعواصم عند المصيصة وطرسوس، واتفقوا كلهم على أن جيحون وراء خراسان عند بلخ، واتفقوا على أنه غير جيحان، وكذلك سيحون غير سيحان.
وأما قول القاضي عياض: هذه الأنهار الأربعة أكبر أنهار بلاد الإسلام، فالنيل بمصر، والفرات بالعراق، وسيحان وجيحان ويقال سيحون وجيحون ببلاد خراسان ففي كلامه إنكار).
الإمام النووي يقول أن القاضي أخطأ في ذلك؛ لأنه جعل سيحان وجيحان هما سيحون وجيحون، وهذا خطأ كما قلنا من قبل، وأنه قال: الفرات بالعراق وليس بالعراق فنقم عليه ذلك، كما أنه قال: أنهما -أي: سيحان وجيحان- في بلاد خرسان.
قال: (وأما سيحان وجيحان فهما ببلاد الأرمن بقرب الشام).
فهذه أخطاء ردها النووي على القاضي عياض.
قال: (وأما كون هذه الأنهار من ماء الجنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وإنها من ماء الجنة).
أي: هذه الأنهار من ماء الجنة).
أي: معنى أن هذه الأنهار من ماء الجنة.
(ففيه تأويلان ذكرهما القاضي عياض.
أحدهما: أن الإيمان عم بلادها).
والإيمان سبب لدخول الجنة، وهذا تأويل بعيد أن الإيمان عم بلادها.
قال: (أو أن الأجسام المضتغذية بمائها صائرة إلى الجنة).
فهذه البلاد يعيش فيها اليهود، ويعيش فيها النصارى ويشربون ويتغذون من مائها فكيف يدخلون الجنة؟ وإنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة، واليهود والنصارى لا حظ لهم في الجنة، ولا حظ في الجنة إلا لمن آمن ووحد.
فحينئذ يكون هذا تأويل مردود؛ لأنه بعيد جداً.
قال: (والثاني وهو الأصح: أنها على ظاهرها).
أي: أن هذا الحديث على ظاهره لا يحتاج إلى تأويل.
(ولها مادة من الجنة) أي: لهذه الأنهار مدد من السماء، لا يعلمه إلا الله، خاصة وقد جاء في روايات سبقت وشرحناها تفصيلاً وأثبتنا أن لهذه الأنهار مدد من الجنة، وأنتم تعلمون أن الجنة والنار مخلوقتان الآن، وأن النبي عليه الصلاة والسلام دخل الجنة فرأى فيها كيت وكيت وكيت، وذكرنا هذه المرئيات، واطلع على النار فوجد أكثر أهلها النساء، فالجنة والنار مخلوقتان الآن قائمتان الآن لا يدري أحد مكانهما، وهذا يفوض علمه إلى الله عز وجل، فحينئذ يجب أن نعتقد أن هذه الأنهار إنما أصلها وأصل منبتها من الجنة، وأنها تستمد ماءها من الجنة، فإذا أرادوا أن يضحكوا علينا بعد ذلك ويقولون: إن هذا النيل يستمد ماءه من بحيرة ناصر سنقول: إن النيل وبحيرة ناصر يستمدان الماء من الجنة، وإذا كان هذا الماء الذي بين أيدينا هو ماء أصله من الجنة، فعيب علينا أن نلوثه بالقاذورات والفضلات وآثار التغوط وأكثر من ذلك، وعيب علينا أن نسمح لغير بلاد المسلمين أن يلوث هذه المياه بالكيماويات والسموم وغير ذلك حتى صرنا أفقر بلاد العالم في الماء، مع كثرته ووفرته لكن ماء النيل بين أيدينا ونخشى أن نستعمله ونقول: لابد من تكريره أولاً، وهناك منظر يؤذي قلوب الموحدين: أن ترى على كل مكان من النه