وأنكرت القدرية هذا، وزعمت أنه سبحانه وتعالى لم يقدرها ولم يتقدم علمه سبحانه وتعالى بها، وأنها مستأنفة العلم، أي: لا يعلمها إلا بعد وقوعها، وهذا معنى مستأنفة، أي: أن الله تعالى لا يعلم ما سيقع في ملكه إلا بعد أن يقع، تعالى الله عز وجل عن قولهم علواً كبيراً، أي: إنما يعلمها سبحانه بعد وقوعها، وكذبوا على الله سبحانه، وسميت هذه الفرقة قدرية لإنكارهم القدر.
قال أصحاب المقالات من المتكلمين: وقد انقرضت القدرية القائلون بهذا، يعني: لم يبق منهم اليوم أحد يدعي أن الله تعالى لا يعلم الأشياء ولم يكتبها، وإنما القدرية الموجودة الآن -وهم بعض أهل الاعتزال- إنما يتعلق إنكارهم بالقدر بالمشيئة والخلق، وخاصة الخلق، ويقولون: الخير من الله والشر من غيره، فأشبهوا المجوس الذين قالوا بوجود إلهين، إله للخير وإله للشر، وإله للنور وإله للظلمة.
حكى أبو محمد بن قتيبة في كتابه غريب الحديث وأبو المعالي وإمام الحرمين الإمام الجويني في كتابه الإرشاد في أصول الدين أن بعض القدرية قالوا: لسنا بقدرية، بل أنتم القدرية؛ لأنكم تثبتون القدر، فحق لكم أن تنسبوا إلى القدرية، وأما نحن فإننا ننفي القدر، والأصل فيه النفي، وهذا الكلام مردود عليهم، ولذلك سماهم النبي صلى الله عليه وسلم مجوس هذه الأمة؛ لأنهم تشبهوا بالمجوس القائلين بوجود إلهين خالقين؛ إله للظلمة وإله للنور، وإله للخير وإله للشر، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (القدرية مجوس هذه الأمة).
وهذا الحديث حسن بمجموع طرقه.
والحاكم أبو عبد الله أخرج هذا الحديث وقال: صحيح على شرط الشيخين، وليس كذلك، وإنما هو حديث حسن.
قال الخطابي: إنما جعلهم صلى الله عليه وسلم مجوساً لمضاهاة مذهبهم مذهب المجوس في قولهم بالأصلين النور والظلمة، وزعمهم أن الخير من فعل النور، والشر من فعل الظلمة، فصاروا ثنوية.
وكذلك القدرية يضيفون الخير إلى الله تعالى والشر إلى غيره، والله سبحانه وتعالى خالق الخير والشر جميعاً، ولا يكون شيء منهما إلا بمشيئته، فهما مضافان إليه سبحانه وتعالى خلقاً وإيجاداً، وهذه المرتبة الرابعة من مراتب الإيمان بالقدر، فإن الشر منسوب إلى الله عز وجل من جهة الخلق والإيجاد، وهو منسوب إلى العبد من جهة العمل والكسب، أي: أن الله تعالى أوجد هذا الشر وخلقه بإرادته الكونية، ولكن الفاعل الحقيقي لهذا الشر إنما هو العبد، فمسألة الشر التي ضل فيها متأخرو المعتزلة متعلقة بخلق الشر، فإنهم ينفون أن الله تعالى خلق الأفعال كلها.
والخلق جميعه منسوب إلى الله عز وجل، فما من شيء من خير وشر إلا والله تعالى قد خلقه، فأما خلق الخير فلا إشكال فيه، وإنما الإشكال عند المعتزلة في خلق الشر، وهو كذلك منسوب إلى الله عز وجل من جهة الخلق والإيجاد والإتمام، ولكنه ينسب إلى العبد من جهة الكسب والعمل، أي: أن العبد هو الذي اكتسب وعمل هذا الفعل.
قال: فهما مضافان -الخير والشر- إلى الله سبحانه وتعالى خلقاً وإيجاداً، وإلى الفاعلين لهما من عباده فعلاً واكتساباً.
والله أعلم.
قال الخطابي: وقد يحسب كثير من الناس أن معنى القضاء والقدر إجبار الله سبحانه وتعالى العبد وقهره على ما قدره وقضاه، وهذا كلام الجبرية، يعني: يقولون: إن العبد إنما أجبر على فعل الخير والشر، وبناء عليه فلا يحاسب، ولا يضره ما يأتيه من خير ولا شر.
وليس الأمر كما يتوهمونه، وإنما معناه الإخبار عن تقدم علم الله سبحانه وتعالى بما يكون من اكتساب العبد وصدوره عن تقدير منه.
قال: والقدر اسم لما صدر مقدراً عن فعل القادر سبحانه وتعالى، يقال: قدرت الشيء وقدرته بالتخفيف والتثقيل بمعنى واحد، والقضاء في هذا معناه الخلق، كقوله تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت:12]، أي: خلقهن.
قلت: وقد تظاهرت الأدلة القطعيات من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة وأهل الحل والعقد من السلف والخلف على إثبات قدر الله عز وجل، وقد أكثر العلماء من التصنيف فيه، ومن أحسن المصنفات فيه وأكثرها فوائد كتاب الحافظ الفقيه أبي بكر البيهقي رضي الله عنه، وقد قرر الأئمة من المتكلمين ذلك أحسن تقرير، بدلائلهم القطعية السمعية والعقلية.
والله أعلم.