لو نظرت إلى الإسناد الأول والإسناد الثاني لـ مسلم في هذا الحديث لوجدت أن شيخه الأول زهير بن حرب، وشيخه الثاني هو عبيد الله بن معاذ العنبري، ولكنه لم يرو الحديث عنهما بصيغة واحدة، وإنما رواه عن الأول بقوله: حدثني زهير، ورواه عن الثاني بقوله: حدثنا عبيد الله، والإمام مسلم عليه رحمة الله امتاز عن الإمام البخاري بالدقة والتحري في الألفاظ والأداء والرواية، كقوله حدثنا وأخبرنا وأنبأنا، والتمييز بين اختلاف الروايات بعضها عن بعض في الإسناد الواحد.
فقوله: حدثني يفيد عند علماء أصول الحديث أنه سمعه من لفظ الشيخ على حدة، يعني: حدثني وحدي، وإذا كان الراوي يحدث على ملأ من الناس وملأ ومن الطلبة، وأراد الطالب الذي سمع عنه في هذا المجلس أن يحدث عنه فيقول: حدثنا، واللغة تشهد بهذا، فحدثني يعني: على انفراد، وحدثنا يعني: في جماعة.
وقد اختلف العلماء أيهما أقوى: حدثني أو حدثنا؟ فبعضهم قال: حدثني أقوى، وبعضهم قال: حدثنا أقوى، والذين قالوا: حدثني أقوى.
حجتهم أن حدثني كلفظ سمعت من الشيخ، أي: أن هذا سماع من لفظ الشيخ مباشرة بدون واسطة، ثم إن القائل والمتحدث هو الشيخ وليس غيره، وأما لفظ حدثنا فممكن أن يكون من غير لفظ الشيخ؛ لأنه لم يكن هناك مكبرات صوت في ذلك الزمان، وكان يحضر مجلس التحديث آلاف الطلبة، وكان هناك مبلغون، وربما بلغ عدد المبلغين في المجلس الواحد عشرين أو أكثر، فإذا قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي فقد لا يكون عبد الرحمن بن مهدي هو الذي حدثه، وإنما سمعه من لفظ المبلغ، وربما يقع التصحيف أو التحريف في لفظ المبلغ، فيكون لفظ حدثني أقوى من لفظ حدثنا.
ولو قال الراوي: حدثني، فيما ينبغي أن يقول فيه: حدثنا لكان هذا قادحاً في عدالته ونقله.
ولفظ حدثني لابد فيه من سماع لفظ الشيخ، وأما لفظ حدثنا فلا يشترط فيه ذلك.
ولذلك استخدم بعض أهل العلم لفظة حدثنا في الإجازة، كما استخدموها في العرض على الشيخ، وهذا أيضاً أحد صور التحمل؛ فبدلاً من أن يأتي الشيخ بنسخته والطلبة يكتبون، يقرأ أحدهم على الشيخ والطلبة يسمعون، فإذا سكت الشيخ فهذا يعني أنه راض ومقر بما يقرؤه هذا الطالب، فيجوز للذي سمع أن يقول: حدثنا الشيخ، فيستخدمون لفظ حدثنا في العرض على الشيخ، وأما لفظ حدثني فلا يستخدم أبداً إلا في السماع من لفظ الشيخ.
فحدثني وسمعت أقوى من حدثنا وسمعنا، هذا الرأي الراجح.
ومن الأدلة على ذلك أيضاً: أنه يمكن أن ينام الشيخ أثناء العرض عليه.