فلا تعترض على البخاري ولا على مسلم؛ لأن هذين الإمامين اتفق أهل العلم على تقدمهما في صناعة الحديث، والمعروف أن كل صنعة لها أهلها.
فلما يقال -مثلاً-: اتفق سيبويه والكسائي -مع اختلاف المدرستين- على شيء في اللغة، فمثله وأعظم منه في الحديث إذا قيل: اتفق عليه البخاري ومسلم.
فلما يتفق أهل الصنعة على شيء يقال: فلان هذا مقدم، فلا تعترض عليه إذا ظهر لك اختياره.
فـ البخاري وإن كان الراوي مُتَكَلَّمٌ فيه، إلا أنه انتقى من أحاديثه ما لم يغلط فيه.
إذاً: لا تأت وتقول له: كيف أخرجتَ له والعلماء تكلموا فيه؟ فسيقول لك: أنا أعرف أنهم تكلموا فيه؛ لكن هذا الذي أخرجتُه له مما لم يغلط فيه.
وسأورد لكم مثالاً -واعذروني على إتياني بمثال كهذا- لو كان هناك قفص (طماطم) أو قفص (مانجو) وفيه -مثلاً- ستون أو سبعون حبة، منها ثلاثون أو أربعون حبة معطوبة، فماذا ستعمل؟ تنتقي من هذا القفص الحبات السليمة.
فأنا يمكنني أن أقول لك: هذا القفص كانت فيه حبات معطوبة.
ستقول: أنا أعلم أن فيه حبات معطوبة، ولكن هل أتركُه كلَّه؟ أنا انتقيت ما لم يدركه العَطَب.
كذلك علماء الحديث، إذا كان الراوي متكلماً فيه، فالمعروف أن هذا الرجل لم يغلط في كل أحاديثه، إنما غلط في بعض أحاديثه، فأنا بما لي من الخبرة والعلم والدربة والممارسة عرفتُ أن هذا الراوي أخطأ في عشرة أحاديث، أو عشرين حديثاً، أو مائة حديث، أو ألف حديث، والباقي لم يغلط فيها، فأخذت ما لم يغلط فيه وخرَّجته عندي، أي ملامة عليَّ في ذلك؟ فالإمامان البخاري ومسلم عملا هكذا.
من أجل هذا لا تنظر في أسانيد الصحيحين، فإن أسانيد الصحيحين صحيحة، إلا بعض أحرف قام الدليل على الغلط فيها، وأهل العلم يعتذرون عن البخاري وعن مسلم بحيث إذا صادفنا شيء من ذلك ذكرناه؛ لكن لا يختلف اثنان في تقدم البخاري رحمه الله، فإذا أخرج البخاري لراوٍ مُتَكَلَّمٍ فيه حديثاً، فهو قد انتقى من حديثه ما لم ينكروه عليه، ويكفي أن نعطي مثلاً بأول حديث في صحيح البخاري الذي قال فيه: حدثنا الحميدي، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، قال: حدثنا يحيى بن سعيد الأنصاري، قال: حدثنا محمد بن إبراهيم التيمي، قال: سمعت علقمة بن وقاص الليثي يقول: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه -وفي رواية للبخاري: على المنبر- يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أيها الناس! إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئٍ ما نوى ... ) إلى آخر الحديث المشهور.
فهذا الإسناد (نظيف) و (مذهَّب) ، ما عدا محمد بن إبراهيم التيمي، سئل عنه الإمام أحمد فقال: له مناكير.
فرب واحد يقول لك: إذاً ما دام له مناكير، فكيف خرَّج له الشيخان؟ نقول: الإمام أحمد قال: له مناكير، ولم يقل: كل أحاديثه مناكير، أو هو منكر الحديث، بل قال: له مناكير.
فهذا الحديث مما اتفق أهل العلم جميعاً على أن محمد بن إبراهيم التيمي حفظه، وأنه لم يغلط فيه، فلا يقول قائل: هذا الحديث -وإن كان في الصحيحين- في إسناده محمد بن إبراهيم التيمي، وقد قال أحمد: له مناكير، فإنه يسقط.
إذاً: أي إسناد في الصحيحين فيه راوٍ مُتَكَلَّمٌ فيه، اعلم أن هذا مما انتقاه صاحب الكتاب، وأن هذا ليس من جملة ما غلط فيه هذا الراوي.
إذاً: عندنا ثلاثة رواة عند البخاري يروون هذا الحديث عن أبي عوانة، وثمة آخرون من الثقات يروون هذا الحديث عن أبي عوانة، فهذا الحديث يرويه مسلم في صحيحه أيضاً من طريق شيخيه أبي كامل الجحدري فضيل بن حسين وشيبان بن فروخ، قالا -هذان الاثنان-: حدثنا أبو عوانة.
قلنا: البخاري في هذا الموضع قال: حدثنا عارم، أليس كذلك؟! وفي كتاب العلم سيأتي بعد ذلك، قال: حدثنا مسدد، وفي كتاب الوضوء قال: حدثنا موسى بن إسماعيل التبوذكي أبو سلمة، فهؤلاء ثلاثة قالوا: حدثنا أبو عوانة.
فكم واحد في البخاري؟ ثلاثة.
إذاً: هؤلاء ثلاثة في البخاري.
ومسلم روى هذا الحديث من طريق شيبان بن فروخ، وأبي كامل الجحدري فضيل بن حسين، قالا: حدثنا أبو عوانة.
فكم شخصاً رواه عن أبي عوانة؟ خمسة.
وأحمد قال في المسند: حدثنا عفان بن مسلم، قال: حدثنا أبو عوانة.
فكم صاروا؟ صاروا ستة.
والطحاوي في: شرح معاني الآثار يرويه من طريق أبي داود الطيالسي.
فصار هؤلاء سبعة.
وعندنا أبو عوانة يرويه من طريق معلى بن أسد، قال: حدثنا أبو عوانة.
كم صار العدد؟ ثمانية.
فهذه الأسماء كلها متابعات.
إذاً: هذه الطبقة هي طبقة شيخ البخاري، انظر كم واحداً روى الحديث! كلهم يأخذ الحديث عن نفس الشيخ وبنفس السند إلى النبي صلى الله عليه وسلم.