ومع ذلك فقد احتاط البخاري قبل مسلم -وهو شيخه-، ومسلم على وجه الخصوص؛ لأن الصناعة الحديثية في صحيح مسلم أكثر منها في صحيح البخاري.
فاحتاط مسلم في رواية مَن تُكُلِّمَ فيه، وبالذات هؤلاء الثلاثة الذين اعترض عليهم أبو زرعة الرازي، فـ أسباط بن نصر ليس من شيوخ مسلم، ولكنه من شيوخ شيوخه، يروي عنه بواسطة، ولم يرو مسلم لـ أسباط إلا حديثاً واحداً فقط في الصحيح، وهو الحديث الذي يرويه أسباط بن نصر، عن سماك بن حرب، عن جابر بن سمرة قال: (صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة الأولى، ثم استقبله صبيان فجعل يمسح خَدَّي أحدِهم، فلما مسح خَدِّي وجدتُ لكفه برداً وليناً كأنها خرجت من جؤنة عطار) هذا هو الحديث الوحيد الذي أخرجه مسلم لـ أسباط بن نصر.
أما أحمد بن عيسى المصري الذي تكلم فيه أبو زرعة الرازي وأشار إلى لسانه، كان الخطيب البغدادي يقول فيه: لم أجد حجةً لمن ترك حديث أحمد بن عيسى المصري.
وأحمد بن عيسى المصري له في صحيح مسلم اثنان وثلاثون حديثاً تقريباً، لم يرو له مسلم منفرداً في صحيحه، إلا ثلاثة أحاديث، توبع عليها جميعاً، والمتابعون كلهم من خارج مصر، إذاً: لم يتفرد أصلاً بها.
وبقية الأحاديث كان مسلم يقرن ما بين رواية أحمد بن عيسى وغيرِه، فكثيراً ما يقول: حدثنا أبو الطاهر -الذي هو أحمد بن عمرو بن السرح - وأحمد بن عيسى، أو يقول: حدثنا حرملة بن يحيى، وأحمد بن عيسى، أو عمرو بن سواد وأحمد بن عيسى، يعني: أن مسلماً يروي لـ أحمد بن عيسى مقروناً بغيره، فقد احتاط، والأحاديث التي أخرجها وانفرد بها أحمد توبع عليها في الكتب الأخرى، في السنن وصحيح ابن حبان ومستدرك الحاكم وغيرها.
بقي قطن بن نسير لم يرو له مسلم في صحيحه إلا حديثين: الأول متابعةً، والآخر مقروناً بغيره.
في المتابعات أخرج الحديث الذي رواه أنس، لما نزل قوله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات:2] : (اعتزل ثابت بن قيس وكان رجلاًَ جهوري الصوت -صوتُه عالٍ-، وقال: أنا من أهل النار؛ لأنني كنت أرفع صوتي على صوت النبي، فافتقده النبي صلى الله عليه وسلم أياماً، فسأل عنه سعد بن معاذ، قال: يا أبا عمرو! ما فعل ثابت، أشتكى؟ -أي: أهو مريض؟ - فقال: يا رسول الله! أنا جاره وما علمته يشتكي، ثم انطلق إليه يسأل عنه، فإذا هو معتزلٌ في داره لا يخرج، قال: ما لك، قال: أنا من أهل النار؛ لأنني كنت أرفع صوتي فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم، فرجع سعد إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: قل له: أنت من أهل الجنة) .
فهذا الحديث رواه الإمام مسلم رحمه الله أولاً بسندٍ (نظيف) ، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: حدثنا الحسن بن موسى الأشيب، قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت البناني، عن أنس بن مالك، هذا السند الذي افتتح به مسلم هذا الحديث في صدر الباب، سند كالشمس، صحيحٌ أن حماد بن سلمة مُتَكَلَّمٌ فيه بكلام يسير، لكنه كان أوثق الناس في ثابت البناني، إذا سمعتَ حماد بن سلمة، عن ثابت البناني فاعلم أنه لا غبار عليه؛ لأن حماداً كان أوثق الناس، من الممكن أن يُضَعَّف في بعض الشيوخ الآخرين؛ لكن في ثابت لا.
بعد أن أورد الإمام مسلم هذا الحديث بهذا السند (النظيف) : أبو بكر بن أبي شيبة، عن الحسن بن موسى الأشيب، عن حماد بن سلمة، عن ثابت بن أسلم البناني، عن أنس بن مالك قال: الحديث.
وحدثنا قطن بن نسير، أليس قطن هذا هو الذي اعترض عليه أبو زرعة؟! الإمام مسلم أخَّرَ رواية قطن ولم يقدمها؛ لأن مسلماً في البداية إنما يعتمد على سندٍ متين، ثم يجيء بعد ذلك بأسانيد قد يكون في بعضها مقال، يريد أن يقول لك: لو اعترضتَ على السند الثاني هذا، فأنا اعتمادي على السند الأول، وبه يثبت الحديث، إنما أوردتُ هذه الأسانيد ليكون نوعاً من التقوية، أي أنه نور على نور.
فبعد أن أشرتُ أن الإسناد أولاً جاء بسند (نظيف) ، جاءَ برواية قطن، قال: حدثنا قطن بن نسير، قال: حدثنا جعفر بن سليمان الضبعي، عن ثابت بن أسلم البناني، عن أنس بن مالك.
فانظر إلى السند الأول: حماد بن سلمة، عن ثابت.
وهنا: جعفر بن سليمان، عن ثابت.
فهذان اثنان عن ثابت.
ثالثاً: ثم رواه مسلم بعد ذلك عن سليمان بن المغيرة، عن ثابت.
رابعاً: ثم رواه عن سليمان التيمي عن ثابت.
إذاً: هؤلاء أربعة يروونه عن ثابت بن أسلم البناني.
فـ مسلم روى هذا عن قطن بن نسير متأخراً في المتابعات، فيكون مسلم بهذا قد احتاط.