إحراز العلو أحد الأسباب الحاملة على التدليس

وإحراز العلو هو أحد الأسباب الحاملة للمدلس على أن يدلس؛ لاسيما في تدليس الإسناد، وقد تكلمنا عن تدليس الإسناد فيما مضى، ولكن لا بأس أن أذكر به حتى أبين أن الحامل للمدلس على إسقاط من حدثه إذا كان نازلاً هو محبة العلو في الإسناد.

وتدليس الإسناد: هو أن يروي الراوي عن شيخه الذي سمع منه ما لم يسمع منه.

لنفترض أننا في هذا المسجد في مجلس حديث ومجلس إسناد، وأنا أحدثكم بالحديث، وهناك طالب دائماً يحضر هذه الدروس، ولكن لأمر ما سافره أو تغيب، ففاته مجلس من هذه المجالس، وقد حدثت في هذا المجلس بعدة أحاديث، وهذا الطالب لو أراد أن يحدث بهذه الأحاديث التي فاتته فلا بد أن يسمعها من رفيق له عني، أي: من شخص حضر هذا المجلس يحدثه عني، إذاً هو قد نزل درجة، فإنه كان يقول: حدثني فلان مباشرة، لكنه أصبح بسبب هذا التغيب عن المجلس يقول: حدثني فلان عن فلان، وبهذا يكون قد نزل في الإسناد درجة.

هذا هو النزول الذي كان المحدثون يحرصون على تلافيه، فالمدلس يقول: بدلاً من أن أروي عن زميلي عن شيخي، أسقط زميلي وأروي عن شيخي مباشرة، ولكنه لا يستطيع أن يرويه عن شيخه بلفظة التحديث، كأن يقول: حدثني فلان؛ لأنه سيكون كذاباً، لكنه يأتي بلفظة لها وجهان: وجه اتصال، ووجه انقطاع، وهي لفظة (عن) ، ولذلك فإن من يقرأ في كتب المحدثين يجدهم يقولون: فيه فلان وهو مدلس، وقد عنعنه.

(عنعنه) أي: رواه بصيغة (عن) ؛ لأن صيغة (عن) فيها معنى الاتصال، ومعنى الانقطاع، فلو أنك قلت: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال؛ لما كذبك أحد، لكن لو قلت: حدثني رسول الله.

فلفظة التحديث لا تحتمل أبداً إلا اللقاء المباشر، والسماع المباشر، أما لفظة (عن) فإنها تحتمل وجهين، فقد تقول: عن فلان، مع عدم اللقاء، ومع ذلك لا يكذبك أحد.

فلذلك المدلس يسقط الواسطة بينه وبين شيخه، ويرتقي بلفظة (عن) .

إذاً: أحد الأسباب الحاملة للمدلس على التدليس هو: العلو، فيسقط الواسطة مر ويعلو بلفظة (عن) إلى شيخه.

فالإمام البخاري -رحمه الله- روى هذا الحديث بإسناد عال وإسناد نازل، والراوي المشترك بين الإسنادين -أول راو مشترك بين الإسنادين- محمد بن فليح.

إذاً فقد قال في الإسناد الأول: حدثنا محمد بن سنان، قال: حدثنا فليح.

إذاً بينه وبين فليح راو واحد وسيط.

الإسناد الثاني: قال: حدثني إبراهيم بن المنذر، قال: حدثني محمد بن فليح، قال: حدثني أبي فليح.

فقد نزل في هذا الإسناد.

إذاً: في الإسناد الأول بينه وبين فليح راو واحد، والإسناد الثاني بينه وبين فليح راويان، والإمام البخاري حول الإسناد بلفظ التحويل، وهو حرف (ح) التي هي عملية الاختزال في هذا العصر، ومعناها: أن الإمام حول الإسناد للاختصار، ولو أن البخاري رحمه الله لم يستخدم هذه اللفظة، لكان سيروي الحديث هكذا: يقول: حدثنا محمد بن سنان، قال: حدثنا فليح، عن هلال بن علي، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة، ويسوق المتن، ثم يرجع ويقول: وحدثني إبراهيم بن المنذر، قال: حدثني محمد بن فليح، قال: حدثني أبي، عن هلال بن علي، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة، ويسوق المتن.

وهذا تطويل، فحتى لا يكرر الإسناد مرة أخرى يأتي من عند الراوي المشترك في الإسنادين ويضع لفظة (ح) فكأنه يقول: سأحول الرواية إلى إسناد آخر، هذا معنى لفظة (ح) التي هي التحويل، أي سيحول الحديث إلى إسناد آخر عنده عن شيخه، والقصد من هذا التحويل: الاختصار.

والإمام مسلم يستخدم هذا التحويل أكثر من البخاري، فإن البخاري قليلاً ما يحول الإسناد.

هذه نكتة إسنادية -أو لطيفة إسنادية- في حديث اليوم.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015