قال البخاري رحمه الله: [باب ثناء الناس على الميت: وفي حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: (مرت جنازة فأثنوا عليها خيراً فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وجبت.
ثم مروا بأخرى فأثنوا عليها شراً فقال: وجبت.
فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما وجبت؟ قال: هذا أثنيتم عليه خيراً فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شراً فوجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض)].
وهذا الحديث في فضل أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، وليس معنى ذلك أن من ذُكر بخير في أي مجتمع وجبت له الجنة، فالراقصون يُذكرون بخير في مجتمع الراقصين، والممثلون يُذكرون بخير في مجتمع الممثلين، ولاعبو الكرة يُذكرون بخير في مجتمع اللاعبين، وليس معنى هذا أنهم وجبت لهم الجنة.
ويوم أن مات سراج الدين رئيس حزب الوفد خرجت صحيفة الوفد في اليوم التالي تقول: إلى جنة الخلد يا سراج! وإنا لله وإنا إليه راجعون، فهل جزمتم أن له الجنة؟ وكان الأصل أن يقال: نسأل الله له الجنة، وأما الجزم بأن له الجنة فهذه مصيبة.
ويحدث هذا كثير جداً، فعندما يموت لاعب الكرة في الملعب، قالوا: فلان شهيد الكرة! وإذا مات المطرب الخليع وهو يرقص قالوا: مات شهيداً، فهو يؤدي عملاً وطنياً وواجباً قومياً، ويوم أن تموت الراقصة وهي ترقص أيضاً يقولون عنها: شهيدة الفن والطرب والإغراء، ولا شك أن هذا مصيبة.
نسأل الله العافية.
فالحديث في فضل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
فإذا مرت جنازة فلنقل: رحمك الله، كم كنت تصلي معنا، كم كنت تصوم، كم كنت تقرأ القرآن، كم كنت تصلح بين الناس، ونذكره بخير.
ومن حسن خاتمة المسلم ومن عاجل شراه: أن يثني عليه أهل الصلاح، ولذلك قال الإمام أحمد: بيننا وبينكم الجنائز، وهذه الكلمة يفهمها الكثير خطأً، فـ ابن حنبل يقول للظلمة: بيننا وبينكم الجنائز.
وقد يفهم البعض أن معنى بيننا وبينكم الجنائز كثرة عدد المشيعين في جنازة الموحدين، وقلة العدد في جنازة غير الموحدين، ولكن ليس هذا هو المقصود، وإنما بيننا وبينكم الجنائز، معناها أن تنظر في جنازة الصالح فلا تجد إلا الصالح، وأن تنظر في جنازة الظالم فلا تجد إلا الظالم، يعني: لا يشيع جنازة الصالح إلا أهل الصلاح، وليس المقصود العدد؛ لأنه يوم أن مات العندليب الأسمر شيّع جنازته مائتي ألف أو ثلاثمائة ألف، وكلهم يبكي، ولكن الذي مشى خلفه هم الملحنون والهابطون والراقصون والممثلون، وكل أهل الظلم والفسق، وما وجدت رجلاً ملتحياً صالحاً يسير خلفه، وهذه مصيبة كبيرة جداً، ويوم أن يموت العالم تجد في جنازته العلماء والأئمة وأهل القرآن والصلاح، فجنازة أهل الصلاح لا يسير فيها إلا أهل الصلاح، وجنازة الظلمة لا يسير فيها إلا الظلمة، فليس المقصود كثرة العدد، وهناك جنازات كبيرة للظلمة يسير فيها الملايين، ولكن الذين يشيعونها لا علاقة لهم بالدين من بعيد ولا من قريب.
قال البخاري رحمه الله: [من حديث بريدة عن أبي الأسود قال: (قدمت المدينة وقد وقع بها مرض، فجلست إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فمرت بهم جنازة فأثني على صاحبها خيراً فقال عمر: وجبت)].
ففي الحديث الأول الذي قال وجبت هو النبي صلى الله عليه وسلم، والذي قال هنا هو عمر.
(ثم مر بأخرى فأثني على صاحبها خيراً فقال عمر: وجبت، ثم مر بالثالثة فأثني على صاحبها شراً فقال: وجبت، فقال أبو الأسود: فقلت: وما وجبت يا أمير المؤمنين؟! قال: قلت كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: أيما مسلم شهد له أربعة بخير أدخله الله الجنة، فقلنا: وثلاثة؟ قال: وثلاثة، فقلنا: واثنان؟ قال: واثنان، ثم لم نسأله عن الواحد).
فهذا إذا أثنى عليه أربعة من السلف وأصحاب العقيدة والتقوى، وأما أن يشهد أحد الحزبيين لحزبي أو أحد أهل البدع والأهواء لآخر أو أحد الأقطاب والأوتاد فهذه شهادة لأهل البدعة، وشهادة أهل البدع مردودة عند الناس وعند الله، فالقرآن والسنة بفهم سلف الأمة دون حزبية ولا تعصب.