قال البخاري رحمه الله: [باب فضل اتباع الجنائز].
يدلل البخاري بهذا الحديث على الترغيب في اتباعها.
وكلمة الاتباع لها معنى حسي ومعنى معنوي، فالحسي: أن تكون الجنازة في المقدمة ونحن خلفها، ولكن المقصود هنا هو المعنى المعنوي، وهو أن تسير مع الجنازة في أي جهة عن يمينها أو يسارها أو أمامها أو خلفها، وتسمى متبعاً للجنازة ولا شك؛ فإن سرت أمام الجنازة فإنك تسمى متبعاً بالمعنى المعنوي وليس بالمعنى الحسي.
قال البخاري: [وقال زيد بن ثابت رضي الله عنه: إذا صليت فقد قضيت الذي عليك].
فـ زيد بن ثابت كان يرى أن من تبع الجنازة حتى يصلى عليها كفاه ذلك، ثم بعد ذلك هو بالخيار، فإن دفن الجنازة متروك لأهل الميت، وهذا ليس فيه استئذان، بخلاف الإمام مالك فهو يرى أنه لا بد أن تستأذن من أهل الميت إذا صليت وانصرفت.
والقيراط والقيراطان أجران ثابتان لمتبع الجنازة، والقيراط من الاشتراك اللفظي؛ لأن القيراط يطلق ويراد به مساحة من الأرض، وهو جزء من 24 جزءاً، ويطلق ويراد به الأجر العظيم، فقد كان معروفاً في لغتهم، فحدثهم النبي صلى الله عليه وسلم بلغتهم، وأراد أن يقرب المعنى إلى الأذهان.
قال البخاري: [حدثنا أبو النعمان حدثنا جرير بن حازم قال: سمعت نافعاً يقول: حدث ابن عمر أن أبا هريرة رضي الله عنه يقول: من تبع جنازة فله قيراط].
قال ابن حجر: والقيراط لا يتحقق إلا بشرط، وهو: أن يتّبع ويصلي، أو أن يتّبع ويدفن فيحقق القيراط؛ لأن اتباع الجنازة وسيلة وليست غاية، فلا بد أن تشهد الصلاة وتنتظر حتى تدفن، وأما من يتبع الجنازة دون صلاة ولا يحضر الدفن فليس له قيراط.
فالاتباع هنا معناه أنه وسيلة لغاية.
وهذا اليوم نشرت الأخبار في الصفحة الأولى: أن رجلاً في الكويت عملت له عملية جراحية في معدته أو في جهاز آخر، فحمل في بعض الأشهر في زمن يحيض فيه الرجال.
وربنا عز وجل جعل الحمل للنساء، وجعل لهن عدة، ومن علامات الأنوثة أن تحمل، {وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:4].
وفي تقدم العلم المعاصر أرادوا للرجل أن يحمل، فأجروا عمليات معينة طبية لرجل كويتي، واستطاع الأطباء أن يجعلوه يحمل بدلاً من زوجته.
أرأيتم إلى خبل كهذا الخبل، وإلى عته كهذا العته؟ فمن مشى وراء الجنازة ووقف خارج المسجد، ثم تبع الجنازة إلى القبر وانصرف قبل الدفن ليس له أجر؛ لأنه لم يصل ولم يحضر الدفن، فالعلة في الاتباع هي أن تصلي على الجنازة وأن تحضر الدفن.
قال البخاري: [لما بلغ ابن عمر أن أبا هريرة يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من تبع جنازة حتى يفرغ من دفنها كان له من الأجر قيراطان، فقال ابن عمر رضي الله عنهما: لقد فرطنا في قراريط كثيرة)].
لأن ابن عمر كان يكتفي أولاً قبل أن يبلغه هذا الحديث بالصلاة عليها، ولا يتبعها إلى الدفن، فكان يصلي وينصرف، هذا فعل ابن عمر في أول الأمر، وقال: لقد أكثر علينا أبو هريرة، أي: أنه خشي عليه من أن يسهو، أو أن يبلّغ ما لم يسمع، أو أن لا يثبت ما ينقل، فقال: لقد أكثر علينا أبو هريرة، فأخذه -كما في رواية- إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فقالت: صدق أبو هريرة، وقالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله.
فصدّقت أبا هريرة في قوله، وأبو هريرة رضي الله عنه وأرضاه أكثر الصحابة تبليغاً لحديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
قال البخاري: [فرطت: ضيعت من أمر الله].
والبخاري في مصنفه يفسّر الكلمات المبهمة بلغة القرآن حتى يقربها إلى الأذهان، وكلمة فرطت في جنب الله جاءت في كتاب الله، ومعناها ضيعت، فـ ابن عمر يقول: لقد فرطنا في قراريط كثيرة.
ومما يستفاد من الحديث: أولاً: مراجعة الذي يسمع للمتكلم، فإن ابن عمر راجع أبا هريرة.
ثانياً: حرص أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على أعمال الخير.