ثم قال البخاري رحمه الله تعالى: [حدثنا عبدان ومحمد قالا: أخبرنا عبد الله أخبرنا عاصم بن سليمان عن أبي عثمان قال: حدثني أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: أرسلت ابنة النبي صلى الله عليه وسلم إليه]، وهي: زينب رضي الله عنها، ثم قال: [إن ابناً لي احتضر فائتنا]، والمراد بالابن الذي كان يحتضر على الراجح عند العلماء، وحقق ذلك ابن حجر: أمامة بنت زينب رضي الله عنهما وأبوها هو: العاص بن الربيع رضي الله عنه، ولكنها لم تمت، بل عاشت حتى تزوجها علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقد تزوجها علي بعد موت فاطمة رضي الله عنها، ثم قال: [فأرسل يقرئ السلام]، وفي هذا جواز السلام من الغائب، ويؤيد ذلك: حديث جبريل عليه السلام عندما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (أقرئ خديجة السلام من ربها)، فحينما يسلم عليك الغائب ينبغي أن ترد عليه السلام.
كما في الحديث: أنه يجوز عند حلول المصيبة أن يرسل إلى أهل الفضل؛ ليقفوا بجوار المحتضر وليربطوا على قلبه.
ثم قال: [فأرسل لها يقول: (إن لله ما أخذ وله ما أعطى)]، أي: أن الأولاد الذين يأتون والذين يموتون ملك لله عز وجل، (وكل عنده بأجل مسمى، فلتصبر ولتحتسب)، فأمر النبي عليه الصلاة والسلام للذي جاءه أن يأمرها بأن تصبر وتحتسب.
قال الشيخ ابن عثيمين في (شرح رياض الصالحين): وأفضل صيغة يعزى بها المسلم أن تقول له: اصبر واحتسب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للرسول بأن يقول لها: (اصبري واحتسبي).
وهناك صيغ أخرى، كقول بعض الناس: البقاء لله، أو البقية في حياتك، وهذا اللفظ الأخير فيه اختلاف، فالعلماء يرون جوازه إن كان المقصود من هذا القول: الدعوة له ببقاء الحياة في الأعمال الصالحة، وليس معناه: أن الميت الذي مات عمره ناقص، وأنه أخذ البقية وأعطاها للحي.
وقدم الصبر على الاحتساب؛ لأن المقام مقام صبر، قال ذلك ابن حجر رحمه الله تعالى.
ثم قال: فأرسلت إليه تقسم عليه ليأتينها، فقام ومعه: سعد بن عبادة ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وزيد بن ثابت ورجال، فرفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبي].
وفيه جواز أن يبر المسلم قسم أخيه إذا أقسم عليه.
ثم قال: [ونفسه تتقعقع، قال: حسبته أنه قال: كأنها شن]، أي: تتحشرج، كالماء الذي يغلي في إناء معلق، [ففاضت عيناه صلى الله عليه وسلم]، فهذه من المواقف التي بكى فيها النبي عليه الصلاة والسلام، فـ البخاري لفقهه العالي أتى بالحديث الأول؛ ليبين جواز البكاء على الميت إن كان بكاءً ليس معه نياحة، بينما هنا أراد أن يقول: إن البكاء المشروع لا شيء فيه، فقد بكى النبي صلى الله عليه وسلم في مواضع وهذه منها، [فقال سعد: يا رسول الله ما هذا؟ قال: (هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء)، إذاً فالبكاء عند حلول المصيبة رحمة جعلها في قلوب عباده، وهذا يبين أن مذهب البخاري رحمه الله: جواز البكاء طالما لا يصاحبه نياحة.