قوله: [(قلت يا رسول الله! إنا قوم حديث عهد بجاهلية؛ وقد جاءنا الله بالإسلام، ومنا رجال يأتون الكهان، قال: فلا تأتهم)].
بدأ هذا الصحابي يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمور كانت معروفة عندهم في الجاهلية، وهو يريد أن يعرف حكمها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا يدلنا على عناية الصحابة رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم واهتمامهم بمعرفة الأحكام الشرعية، ومعرفة ما يسوغ وما لا يسوغ من الأعمال التي كانت في الجاهلية؛ لأن الإسلام نهى عن أشياء من أمور الجاهلية وأقر أخرى، فما أقر منها ثبت بحكم الإسلام وهو الإقرار، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يقر على باطل، وهناك أمور جاء النهي عنها من أمور الجاهلية.
فإذاً: الأمور التي كانت في الجاهلية منها ما جاء الإسلام وأقره، ومن ذلك الولي في النكاح، كما جاء في حديث عائشة رضي الله عنها: أن الرجل عندما يريد المرأة يذهب إلى وليها ويخطبها منه، يعني: أن الولي هو المسئول عن الزواج، وهو الذي يذهب إليه ويخطب منه، فجاء الإسلام وأقر ذلك، ومثل المضاربة في التجارة بالمال، بأن يدفع شخص لآخر مبلغاً من المال على أن يتجر به، وما حصل من ربح فهو بينهما على النسبة التي يتفقان عليها.
هذه من الأمور التي كانت موجودة في الجاهلية وأقرها الإسلام، وقد حصل الإجماع من العلماء عليها.
وأشياء كثيرة منع منها الإسلام، كما جاء في حديث معاوية بن الحكم السلمي، حيث سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (ومنا رجال يأتون الكهان) يعني: في الجاهلية، قال: (فلا تأتهم) يعني: لا يجوز أن يذهب إلى الكهان، وقد جاءت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنع من الذهاب إلى الكهان، وبيان خطر الذهاب إليهم، وخطر تصديقهم فيما يقولون.
والكهان هم الذين يخبرون عن أمور غيبية، ويكون ذلك بالخبط والتخمين، وباستخدام إخوانهم من شياطين الجن، فإن الشيء إذا كان موجوداً يمكن أن يطلع عليه ويخبر عنه بسرعة، لكن يمكن أن يكون إخوانهم من شياطين الجن أخبروهم عن الشيء الذي يطلعون عليه ولا يطلع عليه الإنس، فيكون من الكهان الذين يستعينون بشياطين الجن فيعينونهم، ثم يخبروننا عن أمر، فتحصل فتنة للناس بسبب ذلك، فالرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن الذهاب إليهم وعن تصديقهم فيما يقولون، وحرم الذي يعطى لهم وهو حلوان الكاهن، ومعروف قصة أبي بكر رضي الله عنه مع الغلام الذي كان له، وأنه كان قد تكهن في الجاهلية، ثم لقي هذا الذي تكهن له وأعطاه مكافأة على ذلك، وأعطى أبا بكر فأكل منها، ولما علم أبو بكر ذلك استقاء ذلك الشيء الذي أكله من هذا الغلام الذي جاء عن طريق الكهانة.
فجاءت الشريعة بتحريم حلوان الكاهن، وتحريم الذهاب إليهم وتصديقهم فيما يقولون، على أن الجن الذين يستعينون بهم شياطين الإنس لا يعلمون الغيب، وقد جاء القرآن بذلك كما حكى عن الجن الذين سخرهم الله لسليمان عليه الصلاة والسلام في قصة العصا، وأن دابة الأرض أكلتها، قال الله: {فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} [سبأ:14] يعني: هم لا يعلمون الغيب، ولكن يمكن أن يكونوا بسبب ذهابهم وإيابهم يطلعون على أشياء ويخبرون بها إخوانهم من شياطين الإنس.
الحاصل: أن الكهان هم الذين يخبرون عن الأمور المغيبة، أما العراف فهو الذي يخبر عن مكان الضالة أو مكان المسروق، والعرافة نوع من الكهانة، وكل ذلك لا يسوغ ولا يجوز.
فالرسول صلى الله عليه وسلم قال لـ معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه: (لا تأتهم) يعني: لا تفعل هذا الذي كنتم تفعلونه في الجاهلية، والحكم في الإسلام أنه لا يذهب إلى الكهان ولا يصدقون.