ليس هناك ضر وليس هناك شيء يحذر منه إلا وهو من الله عز وجل قضاءً وقدراً وخلقاً وإيجاداً، فالله هو الذي قدر كل شيء كائن، وهو الذي خلق كل شيء، ولا يقع في الوجود حركة ولا سكون إلا وهو بأمر الله عز وجل وبإيجاد الله سبحانه وتعالى، ولهذا القدر له أربع مراتب: الأولى: علم الله عز وجل الذي لا بداية له، فقد علم كل شيء كائن بهذا العلم الذي لا بداية له.
الثانية: كتابة ذلك في اللوح المحفوظ قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكل كائن مكتوب في اللوح المحفوظ، ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وسبق به القضاء والقدر.
الثالثة: المشيئة، فالله تعالى إذا شاء أن يوجد هذا الذي علمه وكتبه وجد.
الرابعة: الإيجاد والخلق.
إذاً: فكل فعل من الأفعال وكل أمر من الأمور لابد أن يجتمع فيه أربعة أشياء: سبق علم الله به، وسبق كتابة الله له، وسبق مشيئة الله له، وقد أوجده الله عز وجل طبقاً لما علمه وكتبه وشاءه، فكل شيء كائن فإنما وقع بخلق الله وإيجاده طبقاً لما علمه أزلاً، ولما كتبه في اللوح المحفوظ، ولما شاء أن يكون عليه.
إذاً فقوله: [(وأعوذ بك منك)] أي: أن المستعاذ منه من كل ما هو ضار ومن كل ما هو محذور ومخوف سبق به قضاء الله وقدره، والله تعالى هو الذي أوجد ذلك الشيء الضار الذي يخشى منه الإنسان ويحذره، وكما قلنا: إن الصفات غير مخلوقة، وإنما المخلوق آثار الصفات التي هي مفعولات؛ لأن الفعل غير المفعول، فالفعل فعل الله، والمفعول خلق الله عز وجل، فكل هذه الأشياء التي يحذر منها سبق بها العلم والكتابة والمشيئة، ووجدت طبقاً لما علمه الله عز وجل وكتبه وشاءه، وأراده سبحانه وتعالى، وكل شيء ضار في الوجود فإنما هو بقضاء الله وقدره، وهو منه قضاء وقدراً، وهو منه خلقاً وإيجاداً، ولهذا جاء في حديث وصية النبي صلى الله عليه وسلم لـ ابن عباس: (واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف).
هذا هو معنى قوله: [(وأعوذ بك منك)] وهو نظير ما جاء في الحديث: (لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك) أي: أن الفرار من الله إلى الله.
وهذا الحديث شرحه ابن القيم في كتابه: (شفاء العليل) شرحاً وافياً جميلاً، وكتابه (شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل) عقد فيه ثلاثين باباً، وجعل باباً من هذه الثلاثين -وهو الباب السادس والعشرون- خاصاً لشرح هذا الحديث، الذي هو حديث عائشة الذي معنا: (أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك).
فشرحه ابن القيم شرحاً نفيساً جميلاً، وواضحاً على منهج السلف، وخالٍ مما عليه أهل البدع والمنكرات الذين لم يحالفهم التوفيق فيما يكتبون ويقولون عن الله عز وجل وأسمائه وصفاته.
قوله: [(وأعوذ بك منك لا أحصي ثناءً عليك)] أي: لا أستطيع أن أحصي ثناءً عليك، بل أنت كما أثنيت على نفسك، فلا يستطيع أحد أن يحصي ثناءً على الله عز وجل، فثناء المثنين ومدح المادحين لا يمكن أن يصل إلى الغاية في ذلك، أو لا يستطيع أحد أن يحصي ثناءً عليه سبحانه وتعالى كما أثنى هو على نفسه سبحانه وتعالى.