والحديث يدل على أن الهجر الذي يجري بين النفوس يحدد بثلاث ليالٍ بحيث لا يتجاوزها، والعدد ثلاثة هو أقل الجمع، أي: بعد الواحد والمثنى؛ لأن الأعداد: مفرد ومثنى وجمع، والثلاثة هي أقل جمع عند النحاة، وإلا فإن أقل الجمع عند الفقهاء وفي الفرائض اثنان، وأقل الجماعة اثنان: إمام ومأموم، والجماعة التي يتقدم فيها الإمام تكون من ثلاثة إلا في حق المرأة مع الرجل، فالمرأة صف والرجل صف، وأما حصول الجماعة فتحصل باثنين، ويكون المأموم بجوار الإمام، ولكن إذا صاروا ثلاثة فيتقدم الإمام ويكون الاثنان وراءه، وكذلك عند الفرضيين الجمع أقله اثنان؛ لأن الله عز وجل يقول: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء:11] وإذا وجد اثنان من الإخوة فإنهما يحجبان الأم من الثلث إلى السدس، فالحجب لا يتوقف على وجود ثلاثة، بل الحجب يحصل بوجود اثنين؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال فيما يتعلق بالنسبة للإخوة لأم: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء:12] أي: إذا كانوا أكثر من الواحد صاروا شركاء في الثلث.
فأقل الجمع في الفرائض وفي الفقه اثنان، وأقل الجمع فيما يتعلق بالمفرد والمثنى والجمع ثلاثة.
وقد جاء في الحديث أنه إذا خرج ثلاثة فعليهم أن يؤمروا واحداً منهم، وكذلك أيضاً ورد: (الراكب شيطان، والراكبان شيطان، والثلاثة ركب).
وكذلك لم يأت نص يدل على أقل عدد في الجمعة والتجميع، ولكن الذي تدل عليه النصوص ويفهم من النصوص أن الثلاثة يمكن أن يجمعوا، فإمام واثنان مأمومان يمكن أن تحصل بهم الجمعة، ولكن الواحد مع الثاني لا يحصل بهما جمعة، وإنما يحصل بهما جماعة.
قال العظيم آبادي: وإنما جاز الهجر في ثلاث وما دونه لما جبل عليه الآدمي من الغضب، فسمح بذلك القدر ليرجع فيها ويزول ذلك العرض ولا يجوز فوقها، وهذا فيما يكون بين المسلمين من عتب وموجدة، أو تقصير يقع في حقوق العشرة والصحبة دون ما كان من ذلك في جانب الدين.
وهذا الكلام صحيح، لكن ليس فيه جواب عن سبب تحديده بثلاث، ولكن لعل السبب -والله وأعلم- أن الثلاثة أقل الجمع أو أقل عدد يكون فيه الجمع، فالثلاثة هو العدد الذي يترتب عليه جمعة، ويترتب عليه التأمير في السفر، ويترتب عليه كمال الأخوة في السفر، ولا شك أن النفوس جبلت على حصول الغضب، والغضب يمكن أن يشتد في البداية، ثم يتلاشى شيئاً فشيئاً، ولكن تحديد هذا المقدار بثلاثة أيام يحتاج إلى دليل.