الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيله واهتدى بهداه إلى يوم الدين، أما بعد: فإنا نشكر محاضرنا الأستاذ الفاضل الشيخ عبد المحسن بن حمد العباد على هذه المحاضرة القيمة الواسعة، فلقد أجاد فيها وأفاد، واستوفى المقام حقه فيما يتعلق بـ المهدي المنتظر مهدي الحق، ولا مزيد على ما بسطه من الكلام، فقد بسط واعتنى وذكر الأحاديث، وذكر كلام أهل العلم في هذا الباب، وقد وفق للصواب، وهدي إلى الحق، فجزاه الله عن محاضرته خيراً، وجزاه الله عن جهوده خيراً، وضاعف له المثوبة وأعانه على التكميل والإتمام لرسالته في هذا الموضوع، وسوف نقوم إن شاء الله بطبعها بعد انتهائه منها؛ لعظم فائدتها، ومسيس الحاجة إليها.
والخلاصة التي أعلقها على هذه المحاضرة القيمة أن أقول: إن الحق والصواب هو ما أبداه فضيلته في هذه المحاضرة كما بينه أهل العلم، فأمر المهدي أمر معلوم، والأحاديث فيه مستفيضة بل متواترة متعاضدة، وقد حكى غير واحد من أهل العلم تواترها كما حكاه الأستاذ في هذه المحاضرة، وهي متواترة تواتراً معنوياً لكثرة طرقها واختلاف مخارجها وصحابتها ورواتها وألفاظها، فهي بحق تدل على أن هذا الموعود به أمره ثابت وخروجه حق، وهو محمد بن عبد الله العلوي الحسني من ذرية الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهذا الإمام من رحمة الله عز وجل بالأمة في آخر الزمان، فإنه يخرج فيقيم العدل والحق، ويمنع الظلم والجور، وينشر الله به لواء الخير على الأمة عدلاً وهداية وتوفيقاً وإرشاداً للناس، وقد اطلعت على كثير من أحاديثه فرأيتها كما قال الشوكاني وغيره وكما قال ابن القيم وغيره: فيها الصحيح، وفيها الحسن، وفيها الضعيف المنجبر، وفيها أخبار موضوعة، ويكفينا من ذلك ما استقام سنده سواء كان صحيحاً لذاته أو لغيره، وسواء كان حسناً لذاته أو لغيره، وهكذا الأحاديث الضعيفة إذا انجبرت وشد بعضها بعضاً فإنها حجة عند أهل العلم، فإن المقبول عندهم أربعة أقسام: صحيح لذاته، وصحيح لغيره، وحسن لذاته، وحسن لغيره، هذا ما عدا المتواتر، أما المتواتر فكله مقبول سواء كان تواتره لفظياً أو معنوياً، فأحاديث المهدي من هذا الباب متواترة تواتراً معنوياً فتقبل بتواترها من جهة اختلاف ألفاظها ومعانيها، وكثرة طرقها، وتعدد مخارجها.
وقد نص أهل العلم الموثوق بهم على ثبوتها وتواترها، وقد رأينا أهل العلم أثبتوا أشياء كثيرة بأقل من ذلك، والحق أن جمهور أهل العلم بل هو كالاتفاق على ثبوت أمر المهدي، وأنه حق، وأنه سيخرج في آخر الزمان، وأما من شذ عن أهل العلم في هذا الباب فلا يلتفت إلى كلامهم في ذلك.
وأما ما قاله الحافظ إسماعيل بن كثير رحمه الله في كتابه التفسير في سورة المائدة عند ذكر النقباء، وأن المهدي يمكن أن يكون أحد الأئمة الاثني عشر فهذا محل نظر، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لا يزال أمر هذه الأمة قائماً ما ولي عليهم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش)، فقوله: (لا يزال أمر هذه الأمة قائماً)، يدل على أن الدين في زمانهم قائم، والأمر نافذ، والحق ظاهر، ومعلوم أن هذا إنما كان قبل انقراض دولة بني أمية، وقد جرى في آخرها اختلاف تفرق بسببه الناس، وحصل به نكبة على المسلمين، وانقسم أمر المسلمين إلى خلافتين: خلافة في الأندلس وخلافة في العراق، وجرى من الخطوب والشرور ما هو معلوم.
والرسول عليه الصلاة والسلام قال: (لا يزال أمر هذه الأمة قائماً)، ثم جرت بعد ذلك أمور عظيمة حتى اختل نظام الخلافة، وصار على كل جهة من جهات المسلمين أمير وحاكم، وصارت دويلات كثيرة، وفي زماننا هذا أعظم وأكثر، والمهدي حتى الآن لم يخرج فكيف يصح أن يقال: إن الأمر قائم إلى خروج المهدي، فهذا لا يمكن أن يقوله من تأمل ونظر، والأقرب في هذا كما قاله جماعة من أهل العلم: إن مراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهذا الحديث: (لا يزال أمر هذه الأمة قائماً ما ولي عليهم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش)، مراده من ذلك الخلفاء الأربعة ومعاوية رضي الله عنه وابنه يزيد، ثم عبد الملك بن مروان وأولاده الأربعة وعمر بن عبد العزيز، وهؤلاء اثنا عشر خليفة.
والمقصود: أن الأئمة الاثني عشر في الأقرب والأصوب ينتهي عددهم بـ هشام بن عبد الملك، فإن الدين في زمانهم قائم، والإسلام منتشر، والحق ظاهر، والجهاد قائم، وما وقع بعد موت يزيد من الاختلاف والانشقاق في الخلافة وتولي مروان في الشام وابن الزبير في الحجاز لم يضر المسلمين في ظهور دينهم؛ فدينهم ظاهر، وأمرهم قائم، وعدوهم مكبوت، مع وجود هذا الخلاف الذي جرى، ثم زال بحمد الله بتمام البيعة لـ عبد الملك واجتماع الناس بعدما جرى من الخطوب ما جرى على يد الحجاج وغيره، وبهذا يتبين أن هذا الأمر الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد وقع ومضى وانتهى، وأما أمر المهدي فيكون في آخر الزمان، وليس له تعلق بحديث جابر بن سمرة.
وأما كون المهدي يكون عند نزول عيسى فقد قال ابن كثير في الفتن والملاحم: أظنه يكون عند نزول المسيح، والحديث الذي رواه الحارث بن أبي أسامة يرشد ويدل على هذا؛ لأنه قال: (أميرهم المهدي) فهو يرشد إلى أنه يكون عند نزول عيسى بن مريم كما يرشد إليه بعض روايات مسلم وبعض الروايات الأخرى، لكن ليست بالصريحة، فهذا هو الأقوم والأظهر، ولكنه ليس بالأمر القطعي.
وأما كونه سيخرج ويوجد في آخر الزمان كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم فهذا أمر معلوم، والأحاديث ظاهرة في ذلك، والحق كما قاله الأئمة والعلماء في ذلك: أنه لابد من خروجه وظهوره، وأما أمر المسيح بن مريم عليه الصلاة والسلام وأمر المسيح الدجال فأمرهما أظهر وأظهر، فالأمر فيهما قطعي, وقد أجمع على ذلك علماء الأمة، وبينوا للناس أن المسيح نازل في آخر الزمان، كما أن الدجال خارج في آخر الزمان، وقد تواترت بذلك الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكلها صحيحة متواترة بنزول عيسى عليه الصلاة والسلام في آخر الزمان، وحكمه بشريعة محمد عليه الصلاة والسلام، وقتله الدجال مسيح الضلالة، فهذا حق، وهكذا خروج الدجال حق.
وأما من أنكر ذلك وزعم أن نزول المسيح بن مريم ووجود المهدي إشارة إلى ظهور الخير، وأن وجود الدجال ويأجوج ومأجوج وما أشبه ذلك إشارة إلى ظهور الشر، فهذه أقوال فاسدة بل باطلة في الحقيقة لا ينبغي أن تذكر، فأهلها قد حادوا عن الصواب وقالوا أمراً منكراً وخطيراً لا وجه له في الشرع، ولا وجه له في الأثر ولا في النظر، والواجب تلقي ما قال الرسول صلى الله عليه وسلم بالقبول والإيمان به والتسليم، فمتى صح الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يجوز لأحد أن يعارضه برأيه واجتهاده، بل يجب التسليم، كما قال الله عز وجل: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65].
وقد أخبر صلى الله عليه وسلم بهذا الأمر عن الدجال، وعن المهدي، وعن عيسى المسيح بن مريم، فوجب تلقي ما قاله بالقبول، والإيمان بذلك، والحذر من تحكيم الرأي والتقليد الأعمى الذي يضر صاحبه ولا ينفع لا في الدنيا ولا في الآخرة.
أسأل الله عز وجل أن يوفق الجميع لما فيه رضاه، وأن يمنحنا جميعاً الفقه في دينه، والثبات على الحق حتى نلقى ربنا سبحانه وتعالى.
وأعود أيضاً فأشكر فضيلة الأستاذ على محاضرته القيمة الواسعة، وأسأل الله له المعونة على الإتمام والإكمال حتى تطبع وتنتشر فينتفع بها الناس، وصلى الله على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه أجمعين.
هذه كلمة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله التي علق بها على المحاضرة بعد إلقائها، وهي واضحة في بيان وإيضاح ما ذكره العلماء من أن أحاديث المهدي متواترة تواتراً معنوياً، وأن القول بخلاف ذلك أنه من الشذوذ، وأنه قول شاذ مخالف لما عليه الأحاديث الصحيحة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.