معنى أثر: (لا يستطاع العلم براحة الجسد)

هذا الحديث في مواقيت الصلاة رواه مسلم في صحيحه من عدة طرق من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، ثم بعد ذلك روى أثراً بإسناده عن يحيى بن يحيى التميمي عن عبد الله بن يحيى بن أبي كثير اليمامي قال: سمعت أبي يقول: (لا يستطاع العلم براحة الجسم).

فهذا الأثر جاء في كتاب الصلاة عند ذكر المواقيت، وبعد ذكر الطرق المتعددة لحديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما في بيان الأوقات.

قال النووي في الشرح: ولعل مسلماً لما رأى هذه الطرق المتعددة لحديث عبد الله بن عمرو تذكر أن العناية بالعلم والاشتغال به وتحصيل الطرق الكثيرة إنما يحصل بالتعب والنصب والمشقة روى هذا الأثر عن يحيى بن أبي كثير حيث قال: لا يستطاع العلم براحة الجسم.

يعني: من أراد أن يحصل علماً فإنه لن يحصله بالإخلاد إلى الراحة وبالكسل والخمول، وإنما يحصله بالجد والاجتهاد ويحصله بالنصب والتعب، كما يقولون: ملء الراحة لا يدرك بالراحة.

أي أن الشيء القليل لا يحصل بدون مقابل وبدون بذل جهد وبدون جد واجتهاد، فلا بد من النصب ومن التعب، ولا بد من المشقة، فمن أراد أن يحصل شيئاً فليبذل أشياءً، ومن أراد أن يحصل العلم فليبذل النفس والنفيس، ويشغل الوقت بالتحصيل ويجد ويجتهد، وبذلك يحصل العلم، ويقول الشاعر: لولا المشقة ساد الناس كلهو الجود يفقر والإقدام قتال فقوله: (لولا المشقة) يعني: لولاها لصار كل الناس سادة، وإذا كان السؤدد يحصل بدون تعب ومشقة فلن يبقى أحد غير سيد، بل كل يصير سيداً، لكن لما كان السؤدد لا يحصل إلا بالمشقة وليس كل واحد يصبر على المشقة تميز بذلك من هو سيد ومن ليس بسيد، وتميز بذلك من يكون سيداً ومن يكون مقدماً ومرجعاً يستفاد منه، وكل ذلك لا يحصل إلا بالتعب والنصب والمشقة: وقوله: (الجود يفقر) يعني أن الإنسان عندما يكون عنده المال يخشى الفقر فلا يبذل، فليس كل واحد يصبر على هذا ويقدم على هذا؛ لأن من الناس من يكون عنده المال ولكنه يمسكه خشية الفقر.

وقوله: (والإقدام قتال) أي أن الإقدام في الوغى فيه الموت، وليس كل واحد يعرض نفسه للموت.

والحاصل أن هذا الأثر عن يحيى بن أبي كثير اليمامي رحمة الله عليه يدل على أن تحصيل العلم لا يحصل إلا بالتعب، ومن المعلوم أن من عرف بالعلم من المتقدمين الذين خلد الله ذكرهم ونفع الله بعلمهم وبمؤلفاتهم ما حصلوا ما حصلوا إلا بتعب ونصب ومشقة، وما خلفوا ما خلفوا من التراث والعلم إلا بتعب ونصب ومشقة، ويختلف التعب في ذلك الزمن والنصب والمشقة عن هذا الزمن؛ إذ ما كان عند الناس وسائل الراحة، وما كان عندهم تصوير الكتب، وليس عندهم المطابع، وإنما يعولون على الكتابة ويكتبون بأيديهم، ومع الكتابة مقابلة، حتى يتحقق بأن الفرع مطابق للأصل، ومع ذلك كتبوا هذه الكتب العظيمة الواسعة الكثيرة التي لا نستطيع أن نقرأها مجرد قراءة، وهم قاموا بجمعها وترتيبها وتنظيمها وتدقيقها وتحقيقها، وأعمارهم مثل أعمارنا، فلم تكن عندهم أعمار طويلة بذلوها في ذلك، لكن ليس إلا التوفيق من الله عز وجل، والجد والاجتهاد وبذل الوسع والنفس والنفيس، بل إن منهم من ألف المؤلفات وخلف من العلم الواسع وعمره ليس بطويل، كما ذكروا عن أبي بكر الحازمي أنه توفي وعمره خمس وثلاثون سنة، وعنده المؤلفات العظيمة الكثيرة، منها: (كتاب الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار)، ومنها: (شروط الأئمة الخمسة)، وله كتب متعددة.

قال عنه الذهبي لما ذكره في كتابه: (من يعتمد قوله في الجرح والتعديل) مات وعمره خمس وثلاثون سنة، مات شاباً طرياً.

ومثله في المعاصرين الشيخ حافظ الحكمي رحمة الله عليه، مات وعمره خمس وثلاثون سنة وعنده المؤلفات الواسعة نظماً ونثراً في الفقه وفي العقيدة وفي المصطلح وفي الحديث، وكذلك الإمام النووي له المؤلفات الواسعة، منها المجموع، وهو من أوسع كتب الفقه، أي: من الكتب التي جمعت فقه الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة وغيرهم، فكتابه (المجموع شرح المهذب)، وكتاب المغني لـ ابن قدامة من أوسع الكتب التي تعنى بالفقه وجمع كلام الفقهاء من صحابة وتابعين وغيرهم، والمجموع هو كتاب واسع، ولم يتمه، وله المؤلفات الكثيرة الواسعة، ومات وعمره خمس وأربعون سنة.

وكذلك الإمام الشافعي مات وعمره أربع وخمسون سنة، وكذلك عمر بن عبد العزيز رحمة الله عليه معروف في فضله وفي علمه وفي عدله، ومات وعمره أربعون سنة.

فالحاصل أن العلم يحصل بالجد والاجتهاد، والأمر كما قال يحيى بن أبي كثير اليمامي: لا يستطاع العلم براحة الجسم.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015