الإقرار المجمل

قال رحمه الله: [فصل: إذا قال: له عليّ شيء، أو كذا، قيل له: فسره] هذا يسمونه الإقرار بالمجمل، والمجمل هو الذي يتردد بين معنيين فأكثر لا مزية لأحدها على الآخر، أو بين معنيين فأكثر بالسوية.

والمجملات تحتاج إلى بيان وتفسير، ولذلك من شرط قبول الإقرار: أن يكون بيناً، وبعض العلماء يقول بعدم قبول الإقرار المجمل نهائياً، ومنهم من يقول: نقبل الإقرار المجمل ولكن نطلب تفسيره ممن أقر به.

وهذا هو الذي درج عليه المصنف رحمه الله، وهو مذهب طائفة من أهل العلم.

فقوله: له عليّ شيء (شيء) هذه نكرة يحتمل أنه غالي ويحتمل أنه رخيص يحتمل أنه من العقارات ويحتمل أنه من المنقولات يحتمل أنه حق من الحقوق العامة مثل الشفعة يحتمل أنه حق في القذف أو عرض أو نحو ذلك، فيطالب ببيان وتفسير ما أجمل، فإذا أراد أن يفسر ينبغي أن يفسر بشيء له قيمة يصدق على أنه شيء، ولو قال: علي مال، ينبغي أن يكون الشيء الذي يقر به مالاً محترماً شرعاً، وعلى هذا لو قال: له عليّ مال، ثم قيل له: ما هذا المال؟ قال: ميتة، أو خمر، أو خنزير، نقول: هذا التفسير ساقط، ونلزمه بدفع أقل ما يصدق عليه أنه مال، وإذا لم يبين ولم يفسر الأصل يقتضي أنه يحبس حتى يبين ويفسر ما أجمله؛ لأن فيه حقاً للغير، وهو الخصم الذي أقر له.

قال رحمه الله: [فإن أبى حبس حتى يفسره] هذا مذهب من يرى الحبس في الحقوق المبهمة والمجملة، والحبس ينبغي أن لا يكون إلا بدليل واضح بين.

قال رحمه الله: [فإن فسره بحق شفعة، أو بأقل مال قبل] (فإن فسره بحق شفعة) قال: له عليّ حق أن أشفع له في عقار بينه وبين أقاربي، وفعلاً كان بينه وبينهم عقار فيقبل منه؛ لأنه يصدق عليه بأنه شيء، وله حق أيضاً.

(أو بأقل مال) قال: له عليّ مال، ثم قيل: كم المال؟ قال: ريال ونصف، الريال والنصف يصدق عليه أنه مال، فنقبل منه، لكن لو قال: له عليّ شيء، قال: فسر، قال: حبة شعير، هذه لا يمكن أن تقبل ولا يصدق عليها أنها مال عرفاً.

قال رحمه الله: [وإن فسره بميتة أو خمر أو كقشر جوزة لم يقبل] هذا مفهوم العبارة السابقة، قال: له عليّ مال، قال: ما هو المال؟ قال: ثعلب محنط -مثلما يحنطون الآن- هذا ليس بمال؛ لأنه لا يجوز بيع الثعالب المحنطة، نقول: هذا ميتة وليس بمال، إنما يقبل أن يكون مالاً محترماً شرعاً، وهكذا لو فسره بالخمر وبالخنزير كله لا يقبل؛ لأنه لما قال: له عليّ مال، ثم ذكر شيئاً لا قيمة له في الشرع ولا يعتد به شرعاً فكأنه تهرب من الإقرار، كما ذكرنا عند قوله: (له عليّ ألف لا تلزمني) وهو التهرب الصريح والتهرب الضمني.

قال رحمه الله: [ويقبل بكلب مباح نفعه، أو حد قذف] (ويقبل بكلب مباح نفعه) وهو كلب الحراسة وكلب الصيد المعلم، فإذا فسره فقال: له عليّ كلب معلم قُبل تفسيره.

والنفع المباح هو الصيد والماشية، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم استثناء الكلب للصيد وحراسة الغنم والدواب والبهائم، هذه ثلاثة أنواع من الكلاب: (من اتخذ كلباً إلا كلب صيد أو حرث أو ماشية نقص من أجره كل يوم قيراطان)، وهذا يدل على أنه له قيمة شرعاً ومنفعته مباحة.

ومذهب بعض العلماء أنه إذا أتلف كلب الصيد المعلم الذي خسر على تعليمه فعليه ضمانه، وهو مذهب ضعيف، لكن له وجه مما ذكرناه.

قال رحمه الله: [وإن قال: له عليّ ألف، رجع في تفسير جنسه إليه] (وإن قال: له عليّ ألف) هذه الألف ما ندري دولارات أو ريالات أو دنانير أو دراهم.

نقول له: فسر، هل هي ألف دولار أو دينار، فإذا فسره بالدولار قبل، وإذا فسره بالريال قبل؛ لأنه يحتمل، ولو فسر المحتمل بأي تفسير قبل منه؛ إذا كان اللفظ يحتمله.

قال رحمه الله: [فإن فسره بجنس واحد أو بأجناس قبل منه] قال: هذه الألف دولارات؛ فأخذ بالقيمة الغالية قبل منه، هذه الألف ريالات؛ فأخذ بالقيمة الدنيا قبل؛ له ألف؛ خمسمائة دولارات وخمسمائة ريالات -مشترك- قبل، قال بأي شيء؛ سواء أجناس أو جنس واحد.

قال رحمه الله: [وإذا قال: له عليّ ما بين درهم وعشرة؛ لزمه ثمانية] لأن التسعة تسقط بالبينية، ويوافق في هذا بعض فقهاء المالكية الحنابلة رحمهم الله، فما بين درهم وعشرة يلزمه أن يدفع ثمانية؛ لأن هذا يقتضي البينية.

ومن أهل العلم من قال: يلزمه تسعة، لوجود المقاربة، فيدفع تسعة دراهم، والقول الأول يختاره المصنف رحمه الله لوجود البينية، لكن ما الذي يبين له البينية من ناحية ما بين التسعة وما بين الدرهم وبين العشرة؛ لأن التسعة مقاربة للعشرة وما قارب الشيء أخذ حكمه.

قال رحمه الله: [وإن قال: ما بين درهم إلى عشرة، أو من درهم إلى عشرة؛ لزمه تسعة].

هذا للمقاربة لا إلى الغاية، وحينئذ تكون الغاية إلى العشرة وما دونها غير منفية، فتكون تسعة، وما بين درهم وعشرة نفس الحكم، قالوا: لأن هذا يقتضي البينية وقد بيناها في اللفظ وفي المعنى.

قال رحمه الله: [وإن قال: له علي درهم أو دينار؛ لزمه أحدهما].

الدينار أغلى من الدرهم، مثل: له عليّ دولار وريال والدولار أغلى من الريال، نقول له: فسر.

وهذا مراد المصنف: أنه إذا تردد بين الغالي والرخيص طلب منه أن يبين؛ لأن هذا محتمل.

قال رحمه الله: [وإن قال: له عليّ تمر في جراب، أو سكين في قراب، أو فص في خاتم ونحوه؛ فهو مقر بالأول].

(له عليّ تمر في جراب) قالوا: مقر بالتمر وغير مقر بالجراب؛ لأنه قال: تمر في جراب، وما قال: تمر وجراب، وبعض الأحيان الشخص يقول: له عليّ كيس في الثلاجة، فليس معنى ذلك أن نأتي نأخذ الكيس والثلاجة؛ لأن بعضهم يقر بهذا ويقصد أن الذي عليه موضوع في جراب أو في ثلاجة، هذا وجهه، وحينئذ المقر به الأول، وليس المحل تبعاً لما أقر به، والتمر في الجراب.

(أو سكين في قراب) كذلك هو في هذه الحالة لا يقصد؛ لأن كثيراً من الناس يعبر بهذا التعبير ولا يقصد مجموع الأمرين؛ لأنه لو قصد هذا لعبر بالمشاركة، أو قال مثلاً: له عليّ جراب فيه تمر، فهذا واضح بأنه يقصد الجراب مع التمر، لكن إذا قال: تمر في جراب، أو سكين في قراب أو سيف في غمده ونحو ذلك فإنه يقصد به الأول دون الثاني، وهكذا لو قال: فص في خاتم.

فهو مقر (بالأول) بالتمر وبالسكين وبالفص، ولا يلزمه الجراب ولا القراب ولا الخاتم؛ لأنه لم يقر بالثاني.

قال رحمه الله تعالى: [والله سبحانه وتعالى أعلم].

والله أعلم وأحكم سبحانه، سبحان من علم آدم وعلم الأنبياء والعلماء.

ونسأل الله بعزته وجلاله أن يجعله علماً نافعاً وعملاً صالحاً، ونسأله بعزته وجلاله أن يجعله شافعاً نافعاً يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015